يذهب مراقبون الى القول إن تحويلات المغتربين حالت نسبياً دون اهتزاز المنظومة الحاكمة أكثر، أو حتى أنها حمت سقوطها. فلو افترضنا أن لا تحويلات من الخارج تفيد مئات آلاف الأسر اللبنانية، فهل يمكن أن يبقى شيء اسمه استقرار اجتماعي؟ بالطبع لا!. وما فقدان الأمن الاجتماعي إلا بداية تغيير حتمية في المنظومة السياسية للبلاد. إذاً، ولو بشكل غير مباشر، استفاد، ويستفيد، السياسيون في لبنان من هذا المصل الذي يدخل جسم المريض ويغذيه بشكل ما ليبقى على قيد الحياة. ويا لسخرية القدر! فان نفس أموال المغتربين التي كانت تذهب الى المصارف قبل الأزمة، وتتراكم في الودائع، شكلت الضرع الذي شربت منه نفس المنظومة التي لا تعرف اليوم كيف سترد تلك الودائع لأصحابها!
مصل لم ينقطع يوماً
لطالما لعبت تحويلات المغتربين دوراً مهماً في دعم الاقتصاد اللبناني في كل الحقبات السياسية. وكانت أحد الاوردة الذي يضخ الحياة في جسد الدولة اللبنانية ومُساهمة أساسية في إعادة نهوضها عند الضرورة. اليوم في زمن الانهيار، وعلى جري العادة، شكلت هذه التحويلات «أوكسجيناً» لمئات آلاف العائلات اللبنانية ومكّنتهم من العيش بكرامة، ومنعت إلى الآن حدوث إنفجار إجتماعي لا أحد يمكن أن يقدر نتائجه.
لا أرقام نهائية
تختلف تقديرات قيمة تحويلات المغتربين سنوياً. ففي حين تقدرها مصادر دولية بأنها تراوح بين 6 و7 مليارات دولار سنوياً، هناك من يتحدث عن رقم مضاعف اذا أخذنا في الاعتبار ما يدخل البلاد مع المغتربين الذين يزورون لبنان مرة أو أكثر في السنة.
مصادر معنية تؤكد أنه لا يمكن الجزم برقم محدد للأموال التي يرسلها هؤلاء المغتربون. والسبب هو تعدد الوسائل بين شركات التحويلات المالية، وتبادل خدمات نقل الاموال بين الافراد أثناء زياراتهم إلى بيروت. وهذا ما يوافق عليه الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين الذي يشرح لـ»نداء الوطن» أنه «بحسب الارقام الرسمية يدخل إلى لبنان منذ بداية الازمة نحو 6 مليارات ونصف سنوياً، لكن برأيه يدخل إلى لبنان ما بين 16 و 17 مليار دولار في العام. لأن قسماً كبيراً من هذه الأموال يدخل كاش (خصوصا المبالغ حتى 10 آلاف دولار أو أكثر قليلاً) وعبر الشنط خوفاً من إيقافها عبر شركات التحويل المالية أو تحويل قسم منها إلى الليرة اللبنانية. والدليل أن كل المغتربين الذين يأتون من أفريقيا لا يستخدمون الشركات المالية في تحويلاتهم بل عبر الاشخاص والأمانات».
يوضح شمس الدين أن «هذا هو سر إستمرار الاستقرار الاجتماعي في لبنان. العديد من الأُسر تستفيد من هذه التحويلات، ولا يمكن الدخول في تصنيف المبالغ التي تصل إلى العائلات اللبنانية. فهناك مغتربون يرسلون لذويهم 100 دولار شهرياً، في حين أن مغتربين آخرين يرسلون مبالغ أكبر. ولكن متوسط هذه المبالغ هو 300 دولار شهرياً. وهناك مغتربون يحاولون التخفيف من مصاريفهم في البلاد التي يعملون فيها لإرسال ما يستطيعون توفيره إلى عائلاتهم»، معتبراً أن «التحويلات من الخارج كانت ولا تزال وستبقى أحد مصادر الدخل للعائلات اللبنانية ودعائم الاقتصاد اللبناني. والدليل أنه بالرغم من إنهيار الليرة فالعائلات اللبنانية بقيت قادرة على الاستمرار نتيجة هذه التحويلات. وهذا ما كان يحصل تاريخياً، حتى ولو كان المبلغ زهيدا إلا أنه يحدث فرقاً في ظل إرتفاع سعر دولار السوق السوداء. وهذا أمر مستمر وسيُكمل».
التحويلات عقد إجتماعي بين اللبنانيين
بلغة الارقام يوضح رئيس مركز الابحاث في بنك بيبلوس نسيب غبريل لـ»نداء الوطن»أن «الارقام الصادرة من البنك الدولي تظهر ان تحويلات المغتربين وصلت إلى 6 مليارات و 600 مليون دولار في العام 2021 وبتراجع 5.7 بالمئة عن 7 مليارات دولار في العام 2020»، لافتا إلى أنه «في ما يخص العام الحالي، فإن الارقام الصادرة عن شركة omt عن الاشهر الستة الأولى للعام 2022 بما فيها شهر حزيران تُظهر أن تحويلات المغتربين من الخارج إرتفعت بنسبة 8 بالمئة. وبلغ معدل قيمتها بين 200 و 500 دولار أميركي للحوالة المالية. وتلقى حوالى 250 ألف مستفيد شهرياً هذه التحويلات بالدولار الاميركي عبر الشركة»، ويشير إلى أن « 70 بالمئة منها كانت أقل من 500 دولار و30 بالمئة أقل من 200 دولار. والمصادر الاساسية لهذه االتحويلات هي دول الخليج العربي والولايات المتحدة وأستراليا وكندا وألمانيا».
وفي قراءة لهذه الارقام يرى غبريل أن «مستوى تحويلات المغتربين إلى لبنان لم يتراجع بالرغم من أزمة كورونا وتداعياتها على الوضع الاقتصادي العالمي وفي البلدان التي يعمل فيها المغتربون اللبنانيون. ولم تصدُق التوقعات بأن هذه التحويلات ستتراجع، وأظهرت أنها مستقرة وضمن معدل 6 مليارات دولار في العام مع فارق بسيط في الارقام، وبغض النظر عما يمر به لبنان وما يحصل إقتصادياً وصحياً في العالم وفي البلدان التي هي مصادر أساسية لتحويلات المغتربين». مشدداً على أن «هذه التحويلات هي عقد إجتماعي خاص بين المغترب وعائلته في لبنان. ولا يجب تصديق ما يحاول السياسيون ترويجه بأن هذه التحويلات هي جراء جهدهم للحفاظ على هذه التدفقات المالية، والدليل أنها تأتي للعائلات لسد حاجاتهم اليومية والاستشفائية وليس للإستثمارات وهي كانت موجودة قبل الازمة واليوم باتت ملحة أكثر».
التدفقات ستستمر
يرى غبريل أن «هذه التدفقات ستستمر ولا علاقة لها بالوضع السياسي. وتاريخياً، المغتربون يزيدون معدل تحويلاتهم إلى البلد الأُم خلال الازمات، وفي الفترة الاخيرة بقيت محافظة على مستواها بالرغم من تداعيات كورونا على جميع البلدان»، شارحاً أن «سبب بقائها مرتفعة هو أن هناك موجات هجرة متلاحقة من الشباب اللبنانيين والتي إرتفعت وتيرتها منذ حرب 2006، لأنه عادة بعد مرور 5 سنوات على وجود المغتربين في الخارج تبقى نسبة التحويلات إلى الاهل على حالها ولا تزيد بسبب الحاجات الجديدة التي تطرأ على المغترب في بلاد الاغتراب».
المصدر الأول للعملة الصعبة
على ضفة الخبراء المصرفيين يشير الخبير المصرفي جو سروع لـ»نداء الوطن» أنه «قبل الازمة كانت التحويلات تتراوح بين 7 و8 مليارات سنويا. لكنها لم تكن جميعها تحويلات لذوي المغتربين بل جزء منها يأتي لتسديد ديون عقارية ( شقق وأراض وإستثمارات معينة) أو لوضعها كودائع في المصارف بهدف الاستفادة من الفائدة المرتفعة. اما اليوم فكل الأموال التي تأتي هي دعم للعائلات وتتراوح قيمتها بحسب دخل المغترب وهي إجمالا بين 300 و400 دولار للعائلة الواحدة».
يضيف:»هناك ملاحظتان يمكن تسجيلهما في هذا الاطار، الاولى أن هجرة الشباب خلال أعوام الازمة إلى سوق الخليج وأفريقيا أدخلهم أيضا إلى سوق التحويلات. ولكن ليس بمبالغ كبيرة لأن رواتبهم ليست مرتفعة. بيد أنه يمكن القول إن عدد التحويلات بالمطلق زاد مع ارتفاع اليد العاملة اللبنانية في الخارج»، مشدداً على أن «هذه التحويلات هي التي تجعل الناس قادرة على الاستمرار ولكن على مستويات مختلفة. وهي أيضا أحد مصادر إدخال عملة صعبة إلى البلد. لكن علينا التمييز بين تحويلات الشركات المالية التي تشكل الرافد الاول لمصرف لبنان بالعملات الصعبة وهي تشتري وتبيع الدولار لصالحه ، بالاضافة إلى دور الصرافين في تأمين الدولار للبنك المركزي أيضا. لكن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار مدى نزاهتهم وإلتزامهم بتعاميمه في حين أن في السوق السوداء يشترون ويبيعون الدولار لصالح سوريا والعراق وتركيا وليس لصالح لبنان».
يلفت سروع أيضا إلى أن «هناك عملات صعبة تدخل إلى لبنان عبر اللاجئين السوريين وقوات اليونيفيل والبعثات الدبلوماسية. وهذا يعني أن المبلغ يمكن أن يرتفع إلى 9 مليارات دولار سنويا، بالاضافة إلى ما يدخله القطاع السياحي، ولكن بزخم أقل».
ويختم: «كل هذه الارقام والتقديرات لا تعني أنه يمكن تحديد نسبة التحويلات إلى لبنان بسبب غياب الإنضباط الذي يحكم هذه العملية في ما لو تمت عبر المصارف».
عدنا 40 سنة إلى الوراء!
يروي عباس نعمة لـ»نداء الوطن» وهو مهندس معماري يعمل في إحدى الشركات اللبنانية في نيجيريا منذ أكثر من 15 عاماً، أن «شركته إضطرت إلى انتدابه في بداية العام الحالي لإيصال 400 ألف دولار «بالشنطة» لفرع الشركة في بيروت لتسديد التزاماتها تجاه التجار. لأن تحويل هذا المبلغ غير ممكن عبر المصارف وقد يتخلله «وجعة رأس» إذا تّم تحويله عبر شركات تحويل الاموال. وقد تمّ إتخاذ كل تدابير الحماية اللازمة له منذ أن وطأت قدماه أرض المطار»، لافتاً إلى أن «5 من زملائه في الشركة أيضا أرسلوا معه مبلغ 9 آلاف دولار لإيصالها إلى ذويهم».
يشير نعمة إلى أن «تنفيذه المهمة ذكّره بقصص كان يرويها له والده الذي كان يعمل في المملكة العربية السعودية في ثمانينات القرن الماضي، عن كيفية إخفاء أمواله التي يجنيها بجيوب مخفية في ملابسه وحقائبه خوفاً من أن يتم الاستيلاء عليها من قبل حواجز الميليشيات في لبنان آنذاك»، معتبرا أن «الازمة المالية والانهيار الاقتصادي أعادا لبنان أربعين عاماً إلى الوراء لجهة نقل أموال المغتربين بالشنط وعبر أشخاص موثوق بهم. أو لجهة تحوّل هذه الأموال لدى عدد كبير من العائلات اللبنانية إلى «بحصة» تسند خوابيها الفارغة بسبب إرتفاع كلفة المعيشة وإنهيار قيمة الرواتب بالليرة اللبنانية، وتقيهم ذُل العوز مع إرتفاع سعر الدولار في السوق السوداء».