ترتفع الفوائد الأميركيّة، فتتحرّك رساميل العالم غربًا، إلى السوق الأميركيّة بالتحديد. تصرخ الدول الناميّة والاقتصادات الناشئة سريعًا، نتيجة الضغط على ميزان مدفوعاتها، وما يعنيه ذلك من تداعيات على عملاتها المحليّة. كما تصرخ أوروبا، التي لن تملك قدرة مجاراة الفوائد الأميركيّة، نتيجة ضغوط الحرب الأوكرانيّة وتبعاتها على أكلاف وسلال توريد مصادر الطاقة، وما يعنيه ذلك من أثقال على اقتصاداتها التي لا تتحمّل زيادة قاسية في معدلات الفوائد. وهكذا، لم تكن النتيجة أوروبيًّا سوى الهبوط الحاد الذي نشهده اليوم على مستوى سعر صرف اليورو، نتيجة ضغط حركة الرساميل من أوروبا باتجاه السوق الأميركيّة. ثم تصرخ الدول التي تعاني أساسًا من ارتفاع في حجم ديونها السياديّة، بعدما توسّعت خلال السنوات الماضية في الاستدانة بالاستفادة من الفوائد المنخفضة، إلى أن جاء وقت وقت دفع الثمن اليوم مع ارتفاع فوائد الديون بالعملات الأجنبيّة.
لبنان في عين العاصفة
إنّها “عاصفة اقتصاديّة” عالميّة، كما وصّفها بنك إنكلترا، الذي طلب من مصارف بلاده شد الأحزمة وتحضير ميزانيّاتها لضغوط نقديّة وماليّة غير مسبوقة. وهنا، تتعدّد أبعاد ومصادر العاصفة التي يتحدّث عنها بنك إنكلترا: من آثار الحرب الأوكرانيّة والضغوط على سلاسل توريد المواد الأساسيّة، وتداعيات زيادة الفوائد الأميركيّة على حركة السيولة في الأسواق العالميّة، وصولًا إلى نتائج زيادة كلفة خدمة الديون السياديّة بعد رفع الفوائد، وأثر تزايد الطلب على السلع والخدمات تدريجيًّا على معدلات التضخّم العالميّة بعد فتح الأسواق. تقاطعات كثيرة والنتيجة واحدة: على العالم أن يتحضّر لمرحلة صعبة على المستوى الاقتصادي، في النصف الثاني من العام 2022.
وفي هذا المشهد، مخطئ من يعتقد أن لبنان سيكون بمنأى عن هذه التداعيات، على اعتبار أن الانهيار ضرب أساسًا اقتصاده وقطاعه المالي وعملته، أو على اعتبار أن أسوأ ما يمكن أن يحدث قد حدث. بل على العكس تمامًا، سيكون لهذه التطوّرات انعكاسات قاسية على مسارات التصحيح المالي والنقدي المحتملة، وعلى احتمالات انطلاق هذه المسارات منذ البداية. ومن الناحية العمليّة، من المفترض أن تتم مواءمة كل خطّة التعافي المالي مع هذه التحديات، لتأخذها بالاعتبار، ولتعمل على تحصين الخطّة في وجه هذه المخاطر. باختصار، لبنان في عين العاصفة التي تضرب العالم اليوم.
الأثر على تحويلات المغتربين
كما هو معلوم، تمثّل تحويلات المغتربين المصدر الأساسي للعملة الصعبة الواردة إلى السوق المحلّي، والتي ما زالت تغذّي البلاد بحاجتها إلى الدولارات المطلوبة لتغطية عجز الميزان التجاري. وبالاستناد إلى جميع التجارب السابقة، ومنها تجربة الركود الاقتصادي العالمي خلال مرحلة تفشّي وباء كورونا، من المتوقّع أن يتأثّر حجم هذه التحويلات الواردة على المدى القصير، بالضغوط الاقتصاديّة التي تمر بها بلدان الاغتراب. كما من المتوقّع أن تتأثّر هذه التحويلات بالإجراءات الانكماشيّة التي تتخذها المصارف المركزيّة في معظم دول العالم، والقائمة على رفع معدلات الفوائد المحليّة لتجاري زيادة الفوائد الأميركيّة. مع الإشارة إلى أنّ هذا النوع من القرارات غالبًا ما ينتج عنه لجم للكتلة النقديّة المتداولة، ولحركة السيولة في الأسواق المعنيّة بهذه القرارات. كما ستتأثّر هذه التحويلات طبعًا بقرار رفع الفوائد الأميركيّة نفسه، والذي سيؤثّر كالعادة على وفر السيولة الدولاريّة في الأسواق العالميّة.
وعلى المدى القصير، أي تراجع في هذه التحويلات الواردة إلى لبنان، سيعني تلقائيًّا المزيد من الضغط على سعر صرف الليرة في السوق الموازية. كما سيعني المزيد من الشح في الدولارات الموجودة بحوزة المصرف المركزي ومنصّة صيرفة، لكون المصرف يعتمد حاليًّا على شركات تحويل الأموال لشراء هذه الدولارات الواردة طوعًا من المستفيدين منها.
الأثر على النظام المالي اللبناني
بمعزل عن أثر هذه التطورات على تحويلات المغتربين على المدى القصير، يُفترض أن يراهن لبنان على المدى المتوسّط على استعادة التحويلات الواردة إلى النظام المالي المحلّي، بالتوازي مع عمليّة معالجة الخسائر المتراكمة في ميزانيّاته، حسب مندرجات خطّة التعافي المالي. ومن المؤكّد أن قدر هذه التحويلات الواردة سيتأثّر حكمًا بحركة السيولة العالميّة، التي تعاني اليوم من أثر ارتفاع الفوائد في الولايات المتحدة، وضغط التحويلات باتجاه السوق الأميركيّة، بالإضافة إلى الضغط الناتج عن قرارات زيادة الفوائد في الدول التي تحاول مجاراة زيادة الفوائد الأميركيّة. مع الإشارة إلى أن قرارات زيادة الفوائد قد تحتاج إلى سنوات لتؤدّي الغرض المطلوب منها، أي التعامل مع التضخّم، وهو ما يرجّح عدم تراجع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي عن هذه القرارات على المدى المنظور.
في ظل بيئة كهذه، من المتوقّع أن يشهد لبنان شحاً في التدفقات الواردة إلى نظامه المالي، حتّى إذا دخل مرحلة التصحيح المالي خلال الفترة المقبلة، وهو ما سيطيل الفترة المطلوبة لإنجاز مرحلة التصحيح. ولإعطاء مثال بسيط عن كيفيّة تأثّر التدفقات الواردة بمعدلات الفوائد في الخارج، تكفي الإشارة إلى الرساميل الضخمة التي وردت إلى مصارف لبنان بين عامي 2008 و2010، بالتوازي مع خفض الفوائد في الغرب إلى ما يقارب الصفر، أو دون الصفر في بعض الدول. كما تكفي مقارنة هذه المرحلة الورديّة بالمرحلة السوداء، التي شهدت نزوح الرساميل من مصارف لبنان باتجاه الخارج بين عامي 2015 و2018، بعد أن بدأت الفوائد العالميّة بالارتفاع مجددًا.
ومجددًا، تؤكّد التجربتان (خفض الفوائد بعد سنة 2008 ورفعها بعد عام 2015) أن اتجاهات الفوائد العالميّة غالبًا ما تستمر لسنوات قبل أن يتم تعديلها مجددًا، وهو ما يعني أن لبنان سيحتاج إلى التعامل مع الواقع الحالي على المدى المتوسّط بالتوازي مع تطبيق رؤيته للتعافي المالي.
صعوبة الحصول على دعم دولي
ثبّت التفاهم المعقود على مستوى الموظفين مع صندوق النقد قيمة برنامج القرض عند الحدود الثلاثة مليارات دولار، إلا أن الدولة اللبنانيّة تراهن حكمًا على الحصول على مساعدات وقروض دوليّة أخرى بالتوازي مع دخول البلاد برنامج القرض. لكن بوجود كل هذه الضغوط على السيولة في الأسواق الدوليّة، من المتوقّع أن تتأثّر حكمًا قيمة الدعم الخارجي التي يمكن للبنان أن يستحصل عليها في المستقبل من الدول والمؤسسات الدوليّة. مع العلم أن الكثير من الدول النامية تطرق اليوم أبواب المؤسسات الدوليّة، كالبنك الدولي مثلًا، للحصول على مساعدات طارئة في ظل الأوضاع الضاغطة التي تمر بها، وما سيقلّص من قدرة هذه المؤسسات على تلبية حاجات لبنان في المستقبل.
في خلاصة الأمر، تتعدد أشكال المخاطر التي تحيط بلبنان في ظل ما يشهده العالم من اضطرابات ماليّة ونقديّة قاسية. لكنّ الإشكاليّة الأساسيّة تكمن في محدوديّة أفق المعالجات المحليّة التي تخطط لها السلطة في لبنان، والتي تقتصر اليوم على بعض معادلات توزيع الخسائر المقترحة، والتي لم يتم تثبيتها والتفاهم عليها بشكل نهائي حتّى اللحظة. بمعنى آخر، لا تملك الدولة اللبنانيّة أساسًا تصوّراً اقتصادياً شاملاً لمرحلة التصحيح المالي، حتّى تتم مواءمتها مع هذه التحديات. وبذلك، لن تكون النتيجة النهائيّة سوى ترك البلاد مكشوفة أمام كل هذه المخاطر الخارجيّة.