كشفت الأزمة المالية العالمية عام (2008)، وبعد انهيار بعض المؤسّسات المالية في الولايات المتحدة مثل مصارف الرهن العقاري، أن النظام النقدي العالمي الذي يتمحور حول عملة رئيسية (الدولار الأميركي) بات عرضة لأخطار مالية وتهديدات اقتصادية قد تهزّ دولاً بأكملها (إفلاس اليونان وتردي الأوضاع الاقتصادية في كل من إسبانيا والبرتغال). فبعد مرور عامين من الأزمة (في 7\11\2010) طالب رئيس البنك العالمي “روبرت زوليك” “مجموعة العشرين” بأن تستخدم الذهب كنقطة مرجعية دولية لتوقّعات السوق في ما يتعلق بالتضخم والانكماش والقيم المستقبلية للعملة. وفي الشهر التالي من العام نفسه طالب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بإعطاء دور أكبر لحقوق السحب الخاصة في النظام النقدي الدولي. وبعدها بيومين طلبت كل من روسيا والصين تقليص دور الدولار في التجارة العالمية. ورغم كل ذلك ما زال الدولار هو العملة المهيمنة على النظام النقدي الدولي حتى يومنا هذا، وما زال النظام المالي الذي يتبعه يحمل التهديدات ذاتها لجميع المتعاملين. وعليه، شكّلت الأزمة المالية العالمية حافزاً أساسياً لدى جمهورية الصين الشعبية، بالإضافة إلى وجود دوافع وضرورات اقتصادية أخرى، للبدء في بذل الجهود لرفع مكانة اليوان، من اعتباره عملة قومية إلى عملة دولية. وتضمّنت هذه الجهود عمليات ترويج لليوان الصيني في المدفوعات الدولية، والبدء في بناء بنية تحتية وشبكات مالية عالمية لليوان، كما قامت لاحقاً بإنشاء نظام لتسوية المدفوعات بين المصارف عبر الحدود باسم (CIPS) الذي ساهم وما زال يساهم، بشكل كبير، في عملية التدويل تلك، حتى بات البعض يصفه بأنه “نظام بديل” لمنظومة “سويفت” العالمية.
ما هي أسباب وفوائد تدويل اليوان بالنسبة إلى الصين وأفق هذه العملية في المستقبل؟ وما هو نظام (CIPS) ومدى مساهمته في تدويل اليوان ومدى قدرته على أن يحل كمنافس لأنظمة أخرى مثل نظام سويفت “SWIFT” العالمي في ضوء الأرقام والإحصائيات؟
ضرورات تدويل اليوان
الدافع الأهم لهذا التدويل هو الاستقلال عن النظام المالي العالمي والتجاري الدولي الذي يهيمن عليه الدولار، وتعزيز تجارة الصين الخارجية وحمايتها. ففي حين أن الولايات المتحدة هي الشريك التجاري الأكبر للصين، فإن ما يقرب من نصف تجارة الصين تتعلق بسلع التجهيز (هذا يعني أن الأجزاء والمكونات التي تأتي من دول شرق آسيا الأخرى يتم تجميعها في الصين من أجل تصديرها إلى الغرب). ونظراً إلى أن حركة المنتجات هذه لا تشمل الولايات المتحدة، فمن المنطقي إجراء هذه المعاملات الإقليمية وتسويتها باليوان وبنظام الدفع CIPS.
هذا من شأنه أن يساعد المصدّرين والمستوردين على خفض تكاليف المعاملات وتقليل مخاطر سعر الصرف الأجنبي المرتبطة باستخدام الدولار. ناهيك عن أن تدويل اليوان سيساعد الصين في التخلص من كميات أكبر من الاحتياطي بالدولار الذي تملكه، والذي وصل إلى 3.3 تريليونات دولار، وبالتالي سيساعدها في تجنّب “فخّ الدولار” والتبعية المالية. كما أن تدويل اليوان يعدّ أداة هامة من أدوات مكافحة التضخّم الذي نتج من حيازة الصين لهذا الكمّ الهائل من الاحتياطي النقدي بالدولار. فالتعامل باليوان لتسوية المدفوعات بين الدول سيدفع هذه الدول إلى الاحتفاظ به كاحتياطي نقدي. ويعتبر هذا التدويل بالنسبة إلى كثير من الدول كاستجابة للمطالبات بإصلاح النظام النقدي العالمي. فاليوان يعتبر ملاذاً آمناً للبلدان التي تتعرض لعقوبات اقتصادية من قبل الولايات المتحدة الأميركية. وأخيراً: تلعب الاعتبارات الجيوستراتيجية أيضاً، دوراً في تطلّع الصين إلى تدويل اليوان. فلا بدّ للقوى العظمى من امتلاك عملات قوية. واليوان المدوّل سيمنح الصين امتيازات كبيرة في سعيها إلى تحقيق أهدافها الدولية كون الاعتماد النقدي للدول الأخرى سيزيد من نفوذ الصين العالمي.
تعريف نظام CIPS
CIPS هي اختصار لنظام المدفوعات بين البنوك عبر الحدود (Cross-Border Inter-Bank Payments System) مثل “SWIFT” و”CHIPS” ويشرف عليه بنك الشعب الصيني (البنك المركزي في الصين). وهو نظام مراسلة يقوم بمسح المدفوعات الدولية، أي إنه يقوم بتحويل وتأكيد المعلومات بين الدافع (المؤسسة المالية المرسلة) والمدفوع له (المؤسسة المالية المستلمة). ويقدم خدمات المقاصة والتسوية للمشاركين في المدفوعات والتجارة عبر الحدود باليوان. ويعتبر كبنية تحتية مهمة للصين. جرى تطوير النظام على مرحلتين: في 2015 بدأ العمل به وكان يضم 19 مصرفاً صينياً وأجنبياً و176 مشاركاً غير مباشر يغطون 47 دولة. أما في عام 2018، فقد زاد عدد البنوك المشاركة إلى 31 مصرفاً، وارتفع عدد المشاركين غير المباشرين إلى 695 يغطون 148 دولة. وحتى اليوم فإن المشاركين المباشرين وصل عددهم إلى 80، أما غير المباشرين فقد وصل عددهم 1357 شريكاً (بحسب موقع CIPS). فعدا عن أنه نظام جذاب للبلدان المعرضة لعقوبات من قبل الولايات المتحدة، يعتبر أيضا جذاباً بالنسبة إلى الدول التي تتلقى أموالاً لمشاركتها في مبادرة الحزام والطريق الصينية.
نظرة سكونية لتدويل اليوان ونظام CIPS
من المبكر جداً الحديث عن بديل صيني لكل من الدولار، أو لنظام “سويفت” العالمي، ونظام “شيبس”. فقد كان نصيب اليوان الصيني، طبقاً لبيانات احتياطيات العملات الأجنبية الرسمية الصادرة عن صندوق النقد الدولي للربع الثالث من العام الماضي 2022، بنسبة 2.76%. أما حصّة الدولار الأميركي في احتياطيات النقد الأجنبي العالمية كانت في نهاية العام الماضي 2022 تصل إلى 58.36% (إحصائيات صندوق النقد الدولي). والحال هو ذاته في ما يتعلق بنظام الدفع الصيني “سيبس” إذا قورن بنظام الدفع العالمي “سويفت”. فإذا كان حجم الرسائل المرسلة يومياً في نظام “سيبس” يصل إلى عشرات الآلاف (بحسب موقع سيبس) فإن حجم الرسائل في نظام سويفت الذي يضم أكثر من عشرة أضعاف ما يملكه النظام الصيني من مشاركين (11 ألف مصرف) فيصل إلى أربعين مليون رسالة يومياً. وعليه، ومن خلال نظرة سكونية فلا يجوز لنا الحديث عن بدائل في الوقت الحالي.
نظرة دينامية لتدويل اليوان ونظام CIPS
رغم هيمنته المستمرة حتى اليوم على الاقتصاد العالمي إلا أن هناك بعض المؤشرات التي تدلّ على انخفاض بطيء في اعتماد الاقتصاد العالمي على الدولار. فحصة الدولار ضمن عملات الدفع العالمية قد انخفض من عام 2000 وحتى عام 2022 من 70% إلى 60% (إحصائيات صندوق النقد الدولي). بينما الإقبال على استخدام اليوان في تسوية عمليات الدفع ما بين البلدان يتزايد باطراد.
إذ كان آخر المقبلين على الدفع باليوان هي الأرجنتين بعدما أعلن وزير الاقتصاد الأرجنتيني، سيرخيو ماسا، أن البنك المركزي الأرجنتيني سينتقل إلى شراء الواردات من الصين باليوان. وبينما انخفضت حصّة الدولار في احتياطيات النقد الأجنبي العالمية من 71% في عام 1999 لتصل إلى 58.36% في عام 2022. زادت حصّة اليوان بنسبة تقرب من 3% منذ عام 2015. ورغم أن نسبة الين الياباني ارتفعت ووصلت إلى 5%، وأوروبا التي تستحوذ على نسبة 20%، إلا أن للصين حظوظاً أفضل لتنال حصّة أكبر ولتنافس العملات الأخرى في المستقبل. أما في ما يتعلق بنظام “سيبس” فهو الآخر، أرقامه المطلقة في ازدياد مطّرد. حتى إنه بات يوثّق العلاقات الروسية الصينية الاقتصادية بعد طرد روسيا من نظام سويفت. حيث جرى الحديث أخيراً عن انضمام ثلاثين مصرفاً روسيا لهذا النظام لتسهيل عمليات الدفع بين البلدين.
اقتصاد موجه وعملة عالمية!
سواء نظرنا إلى المؤشرات من ناحية سكونية أو من ناحية دينامية، فعلينا ألا ننسى بأن الصين تعمل في اتجاهين متعارضين: فهي تعمل وفق اقتصاد مخطط وموجه نحو التنمية. وفي نفس الوقت تحاول أن تدول عملتها رغم أن تدويل عملة ما يحتاج إلى تحرير الأسواق في الداخل. حتى اليوم يعتقد بعض الاقتصاديين أن الصين ستعمل على تحرير الاقتصاد الصيني شيئاً فشيئاً في خضم سعيها إلى تدويل عملتها. بينما يعتقد البعض الآخر أن الصين ستقدم نموذجاً جديداً لعملة دولية يقودها اقتصاد مخطّط وموجّه، بل وتقديم نظام دفع “سيبس” يشرف عليه بنك مركزي مملوك من قبل الدولة ذاتها. ورغم كل ما سبق يبقى اليوان ونظام “سيبس” ملاذاً آمناً ونظام دفع احتياطي يمكن لأي دولة أن تلجأ إليه عند الحاجة.