عقدت لجنة الأشغال النيابيّة، يوم أمس الخميس، اجتماعًا استثنائيًا لمواصلة البحث في ملف ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وقبرص، استدراكًا لاحتمال خسارة البلاد مساحات واسعة من منطقتها الاقتصاديّة الخالصة. خلال الاجتماع، أصرّت اللجنة المكلّفة بالتفاوض من قبل الحكومة على ضرورة اكتفاء لبنان بالمساحات التي منحتها الاتفاقيّة السابقة الموقّعة بين البلدين في العام 2007، والتي أُنجز على أساسها التفاوض هذا الأسبوع. غير أنّ هذا الرأي خالف وجهة نظر العديد من الخبراء والنوّاب الذين حضروا الاجتماع؛ إذ رأوا أنَّ هذا الترسيم سيفضي إلى حرمان البلاد من آلاف الكيلومترات المربّعة من المياه البحريّة، التي يمكن أن تحتوي على مكامن هامّة من الغاز الطبيعي.
ولأنّ تجربة الترسيم السابقة مع إسرائيل “لم تكن نتائجها مقنعة، وتخلّلتها شوائب”، وفق رئيس اللجنة النائب سجيع عطيّة، واستباقًا لأي اتفاق جديد مع قبرص، قرّرت اللجنة استكمال اجتماعاتها خلال الفترة المقبلة، بغية التوصّل إلى “توصية واضحة وعلميّة للحكومة”. وعليه، من المرتقب أن يبقى هذا الملف موضوع نقاش محتدم محليًا، بين اللجنة الحكوميّة المصرّة على استكمال الترسيم على أساس اتفاق العام 2007، والمعترضين على الاتفاق، الذين تتراوح تقديراتهم لخسارة لبنان في هذا الترسيم بين 2,600 و5,000 كيلومتر مربّع.
لكن بمعزل عن النقاش المستجد، يمكن القول إنّ مسألة ترسيم الحدود البحريّة مع قبرص كانت حافلة بالهفوات التي ارتكبها لبنان تاريخيًا، والتي أفضت إلى الواقع الحالي. وهذا ما يفترض مراجعته، قبل المضي قدمًا بأي اتفاق نهائي مع قبرص.
قصّة اتفاق العام 2007
كانت مفاوضات لبنان مع الجانب القبرصي، في شأن حدود المنطقة الاقتصاديّة الخالصة، قد بدأت منذ 2002. لكن من الناحية الفعليّة، حصلت جولة التفاوض الحاسمة بين الطرفين في العام 2006، وهو ما أفضى إلى إنجاز مسودّة الاتفاق النهائيّة بحلول نهاية تلك السنة، ثم توقيعها في العام اللاحق 2007.
كان مسار التفاوض هذا بداية الهفوات القاتلة التي ارتكبها لبنان في هذا الملف. فمن الناحية القبرصيّة، أُعدَّ وفدٌ ضم دبلوماسيين متخصّصين بالقانون البحري، من وزارة الخارجيّة. كما واكبت المفاوضات إدارة المساحة والمسح البحري، التي قدّمت إحداثيّات وخرائط مفصّلة لنقاط الترسيم المقترحة. وحضر طاقم استشاري قانوني كبير، متخصّص بقانون البحار، لتمكين قبرص من تحقيق أكبر قدر ممكن من المصلحة في هذا الترسيم. وحظيت العمليّة بأسرها باهتمام رسمي بالغ، بوصفها جزءاً من خطّة البلاد للتوسّع في مجال التنقيب عن الغاز واستخراجه.
في المقابل، قاد التفاوض من جهة لبنان وفد تقني من وزارتي الأشغال والخارجيّة، من دون أن تمتلك البلاد في تلك المرحلة أيّة خبرة في مجال التفاوض على المناطق الاقتصاديّة الخالصة. ولم يُدعَّم الوفد بدراسات أو استشارات قانونيّة كافية، لخوض جولة التفاوض بجديّة. أمّا الأهم، فهو أنّ القيادة السياسيّة في البلاد لم تواكب الملف بالاهتمام الذي استحقّه، في مرحلةٍ طغت عليها الانقسامات المحليّة الحادّة، وصولًا إلى الطعن بميثاقيّة الحكومة التي كانت تقوم بالتفاوض.
خسائر اتفاق 2007
منذ البداية، صُوّب من قبل الخبراء على فداحة الأخطاء التي حفل بها اتفاق العام 2007. فمن الجهة الجنوبيّة، لم يُعتمد رأس الناقورة ليكون نقطة انطلاق للمنطقة الاقتصاديّة الخالصة للبنان، بل اعتُمدت نقطة شمال هذا الرأس بنحو 17 كلم داخل البحر، وهو ما قلّص المساحة الاقتصاديّة اللبنانيّة بنحو 860 كلم2. وبذلك تشكّلت المنطقة التي ظلّت موضوع تنازل بين لبنان وإسرائيل لغاية ترسيم الحدود البحريّة بين الطرفين في العام 2022.
أمّا لجهة الغرب؛ أي لجهة الحدود البحريّة بين لبنان وقبرص، فاعتُمدت تقنيّة “خط الوسط” بين الطرفين في شكل جامد. وهذا ما قلّص من حقوق لبنان في المياه البحريّة، التي كان يمكن أن تتسع أكثر لو اعتُمدت اجتهادات أخرى صادرة عن محكمة العدل الدوليّة ومحكمة قانون البحار، بما يعدّل خط الوسط وفق عوامل أخرى مثل طول الساحل لكل دولة. وفي هذا المجال، تتعدّد الأدوات القانونيّة التي يمكن أن يلجأ إليها كل طرف للتفاوض على حصّته. إلا أنّ الأكيد أنّ لبنان مضى بتقنيّة الترسيم التي تحقّق أفضل نتيجة للجانب القبرصي.
تم “التوقيع الأولي” على الاتفاقيّة في العام 2007. لكن بعد أن اكتشف الجانب اللبناني تعقيدات الملف، وقدر الغبن الذي تعرّض له، امتنع لبنان عن إبرام الاتفاقيّة في شكل نهائي، ولم تُعرض على مجلس النوّاب. وبعد ثلاث سنوات، راسلت وزارة الخارجيّة الأمم المتحدة لتبلغها بثلاث نقاط: أن لبنان لم يصدّق على اتفاقيّة العام 2007، وهو يحتفظ بحقّه في تعديل نقطة الانطلاق في ترسيم حدوده الجنوبيّة، وهو غير ملزم باحترام أيّة اتفاقيّات تبرمها قبرص مع أطراف ثالثة على أساس ترسيم العام 2007.
إعادة تحريك الملف
منذ بداية العام الحالي، لم يكن لدى لبنان ما يخسره، مع بقاء ملف ترسيم الحدود معلّقًا. فملف التنقيب عن الغاز في المياه البحريّة اللبنانيّة يُراوح مكانه، وسط ترقّب الشركات الأجنبيّة، بانتظار وضع ترتيبات أمنيّة نهائيّة تضمن الاستقرار ووقف الضربات الإسرائيليّة. وعليه، كان لبنان قادرًا على التفاوض من موقع أقوى، ومن الصفر، بدلاً من العودة إلى اتفاقيّة العام 2007.
أمّا قبرص، فكانت في الموقع النقيض تمامًا. فهناك، بات قطاع استخراج الغاز أكثر نضجاً، وباتت الحكومة القبرصيّة حريصة على ترسيم حدود منطقتها البحريّة الخالصة، لاستنفاد آخر المساحات البحريّة التي يمكن التنقيب فيها. وبالنسبة لقبرص، كان اتفاق العام 2007 أفضل ما يمكن تحقيقه، في أيّة مفاوضات محتملة مع لبنان.
هذا ما يشير إليه منتقدو عودة اللجنة الحكوميّة إلى اتفاق 2007. بل ثمّة إشارات إلى الاستعجال اللبناني المُستغرب، في إتمام التفاوض مع قبرص. فبعد يومين من زيارة الرئيس اللبناني جوزاف عون للجزيرة، شُكّلت لجنة تقنيّة لترسيم الحدود البحريّة، قبل أن يحط في بيروت -بعد ثلاثة أيّام فقط- مدير المخابرات القبرصيّة لفتح باب الحديث عن ترسيم الحدود. وهكذا، وعلى جناح السرعة، اعتُمد مبدأ العودة إلى اتفاق العام 2007، من دون إعادة فتح الملف جديًا أو درسه.
بدا الاستعجال القبرصي، لإنجاز الترسيم، وعلى أساس اتفاق العام 2007، مفهومًا. لكن استعجال الجانب اللبناني، وعدم الأخذ بالملاحظات التي أبداها العديد من الخبراء والنوّاب إزاء هذا الترسيم، بدا مريبًا لكثيرين. وهذا ما بيّنته نقاشات لجنة الأشغال العامّة يوم أمس، خصوصًا أن حجج اللجنة المكلّفة من قبل الحكومة، لاستعجال الترسيم في هذا الشكل، لم تكن مقنعة، في معزل عن صوابيّة اتفاق العام 2007.



