شهد الاقتصاد اللبناني في العقود الثلاثة التي سبقت الحرب الاهلية فورة اقتصادية بفضل الرساميل الساعية للأمان وبفعل الحركة المرفئية وموقع لبنان الجغرافي. استطاع لبنان ان يحقق في العام 1972 حجم صادرات بنسبة 72% من حجم الواردات بحسب تقديرات البنك الدولي في ذلك الوقت اضافة الى ازدهار القطاعات الخدماتية والمصرفية والسياحية. هذا يعني بأن لبنان كانت لديه الامكانيات المتاحة لتعزيز الميزان التجاري. كان ذلك العام الوحيد الذي وصلت فيه هذه النسبة الى هذا المستوى وبدأت بالتراجع لاحقاً بسبب الحرب الاهلية.
مما لا شك فيه بأن العجز المزمن والمستدام في الميزان الجاري يفرض توجهات في السياستين المالية والنقدية تهدف الى الابقاء على نسب مرتفعة من التحويلات المالية بغرض تمويل العجز، مع ما يتأتى من اجراءات نقدية لها اثر على الاقتصاد برمته منها كلفة تثبيت سعر الصرف وغيرها من الاكلاف. ان تمويل العجز الجاري برساميل مستقطبة من الخارج يعرض الاقتصاد عامةً لتقلبات دورية واسعة خاصةً اذا اتى جزء كبير من هذه الرساميل بشكل استثمارات قصيرة الاجل.
إن العجز المزمن في المالية العامة يؤدي الى تراكم الدين العام وتعاظم خدمته التي باتت تشكل نصف ايرادات الخزينة العامة (حوالي 5.5 مليار دولار) اضافةً الى عجز مالي سجل 10.7 % من الناتج المحلي الاجمالي لعام 2018 بحسب ارقام وزارة المال، وهذه النسبة مرشحة الى الارتفاع في العام الحالي 2019 اذا لم تتخذ اجراءات في زيادة الايرادات او تقليص النفقات.
يضاف الى هذه الارقام النفقات النهائية للاستهلاك والتي تشكل 56,048 مليار دولار من اجمالي الناتج المحلي للعام 2017 بحسب ارقام الاحصاء المركزي اي 105 % من اجمالي الناتج المحلي، منهم 91.9 % نسبة النفقات النهائية لاستهلاك الاسر المعيشية و 13.1 % نسبة الانفاق النهائي للحكومة. ان هذه النسبة من الاستهلاك والتي تفوق اجمالي الناتج المحلي، تؤكد بأن مجتمعنا مجتمع استهلاكي الى اقصى الحدود، فعلى سبيل المقارنة نسبة النفقات النهائية لاستهلاك الاسر في تركيا 59.1 % وفي الاردن 80 % وتونس 71.2 % اما في اسرائيل 55.1 % لعام 2017 بحسب احصائيات البنك الدولي. اما متوسط النفقات النهائية لاستهلاك الاسر المعيشية في الدول المتوسطة الى مرتفعة الدخل فهي تشكل 50.6 % للعام نفسه.
تأتي هذه النسبة المرتفعة جداً في ظل عجز كبير في الميزان التجاري اذ نستورد 19,58 مليار دولار ونصدر 2,84 مليار دولار فقط اي ان نسبة الصادرات الى الواردات بحسب الجمارك اللبنانية هي 15 % ، هذا يعني أن العجز في الميزان التجاري يشكل 16,74 مليار دولار. ان 85 % من نفقاتنا الاستهلاكية الداخلية تتحول الى الخارج لتلبية حاجة السوق المحلية ما يدفع الى زيادة الطلب على العملات الاجنبية بغية دفع الفاتورة الاستهلاكية و يؤدي الى الضغط على ميزان المدفوعات. الجدير ذكره بأن التحويلات المالية من المغتربين البالغة حوالي 8 مليار دولار سنوياً تتحول الى الاستهلاك وليس الى الاستثمار ما يؤدي الى تفاقم العجز في الميزان التجاري ايضاً.
ازاء هذه المؤشرات الاقتصادية المقلقة حول الاستهلاك والعجز في الميزان التجاري مع دين عام تجاوز 150 % من اجمالي الناتج المحلي، لا بد من اجراءات اصلاحية سريعة تحد من تراجع المؤشرات وتضع الاقتصاد على السكة الصحيحة لاعادة النمو.
اذا كان تطبيق مقررات مؤتمر سيدر الممر الالزامي لاعادة النهوض، سيما وانه سيضخ حوالي 17 مليار دولار خلال 12 عاماً لتأهيل وتجهيز البنى التحتيه تترافق مع رزمة من الاصلاحات المطلوبة من لبنان من الدول والمؤسسات المساهمة في سيدر، الا ان هذه المشاريع تبقى مسكنات للاقتصاد اللبناني الذي بات يحتاج الى اصلاحات بنيوية. المطلوب هو تعزيز الاقتصاد الحقيقي المنتج اي الزراعي والصناعي اضافة الى اقتصاد المعرفة والاستثمار في صناعات وزراعات ذات قيمة مضافة مرتفعة. يمكن للصناعة الوطنية ان تكون مركزاً للتعاون مع الشركات العالمية لتصنيع وتطوير المنتجات والسلع ذات القيمة المضافة في لبنان وتوزيعها على البلدان المجاورة. يشكل القطاع الصناعي رافعة للقطاعات الاخرى وخاصة للزراعة اذ تقدر منظمة التنمية الصناعية التابعة للامم المتحدة Unido ان كل وظيفة جديدة في القطاع الصناعي تخلق 2.2 فرصة عمل في الاقتصاد الوطني. ان لبنان قادر و بشكل سريع ، بحسب جمعية الصناعيين اللبنانيين، على تلبية قسم من الاستيراد الذي تجاوز 19 مليار دولار بما يمكن ان يصنع محلياً وبقيمة تتجاوز 3 مليار دولار و هذا من شأنه ان يخفض العجز التجاري و يخلق فرص عمل.
لذلك لا بد من اتخاذ بعض التدابير والاجراءات السريعة لتعزيز الصناعة الوطنية والحد من الاستيراد اهمها:
– دعم الصناعة اللبنانية لتنافس السلع الاجنبية من خلال تحسين البنية التحتية لجودة المنتج اللبناني بشكل يتوافق مع المعايير والمواصفات الدولية.
– العمل على رفع الرسوم الجمركية حيث يمكن على بعض السلع المستوردة والمنافسة للسلع الداخلية بسبب زيادة الواردات والاغراق والدعم.
– حماية الصناعة الوطنية ودعمها لزيادة انتاجها وانتشارها وزيادة قدرتها التنافسية.
– تطبيق المعاملة بالمثل تجاه اي اجراءات اجنبية غير مناسبة.
– دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم والحرفية وتعميمها مناطقياً.
– خلق مدن صناعية ذات بنية تحتية وخدمات متكاملة.
– الترويج للصناعة الوطنية و تشجيع الصناعي اللبناني على المشاركة في المعارض وتنظيم المعارض داخلياً و خارجياً.
– تخفيف اجراءات التصدير.
ختاما، ان فرص النهوض بالاقتصاد الوطني متاحة و تعزيز قطاع الصناعة الوطنية مدخل اساسي لذلك. كلنا ثقة بأن وجود الوزير وائل ابو فاعور في وزارة الصناعة سيحدث فرقا ايجابيا في هذا القطاع لانه ابن مدرسة اسسها المعلم الشهيد كمال جنبلاط تؤمن بضرورة الاقتصاد الحقيقي المؤنس.