أتى التعميم 151 في ظروف عمّت فيها الفوضى بعد إفلاس المصارف وانهيار الليرة. كان الهدف منه، محاولة السيطرة على هذه الفوضى لتغطية مفاعيل الانهيار، ولجوء مصرف لبنان والمصارف إلى الكابيتال كونترول والهيركات المقنّعيْن. وفي سبيل ذلك، بنت السلطة بالتعاون مع مصرف لبنان والمصارف أسواراً حبسوا فيها أنفسهم مع كل أفراد المجتمع لتسويق «إنكار الانهيار». بهذا المعنى، أصبحت الودائع هي محور كل شيء في الاقتصاد وفي علاقة المصارف مع الزبائن وفي تبديد ما تبقّى من سيولة بالعملة الأجنبية.في هذا الإطار، من أولى الخطوات التي قام بها مصرف لبنان هي إصدار التعميم 151 في نيسان 2020، أي بعد نحو ستة أشهر على قيام المصارف بأكبر إقفال إرادي لأبوابها (ابتداءً من ليلة 17 تشرين الأوّل 2019). في تلك الفترة توقّفت المصارف عن تسديد الودائع بالدولار لعموم الزبائن بعد تقنين لعدّة أشهر، بينما عملت سراً على تهريب ودائع إلى الخارج عائدة لنافذين سياسيين ورجال أعمال وأمنيين وحتى لأمراء خليجيين. الباقون، تعاملت معهم المصارف من خلال التعميم 151 الذي قضى بأن يشتري مصرف لبنان من المصارف التجارية، الدولارات المسجّلة في حسابات الزبائن مقابل ليرات وفق سعر صرف معيّن. تعدّل التعميم عدّة مرات لتعديل سعر الصرف الذي بلغ في نسخته الأخيرة 15000 ليرة مقابل الدولار فيما حُدّد سقف السحوبات بـ1600 دولار شهرياً.
التعديلات التي طرأت على التعميم 151، كانت تواكب تطوّرات سياسية ومصرفية ونقدية. كلما كان هناك حدث يتطلب مزيداً من محاولات فرض التكيّف على المجتمع، يتم رفع سعر صرف سحب الدولارات من المصارف. وهذا كان مرتبطاً أيضاً بوتيرة ارتفاع سعر الصرف السوقي. عملياً، لعب التعميم 151 دورين؛ الأوّل كان عبارة عن كابيتال كونترول خاص بمصرف لبنان يحدّد من خلاله سقوف السحب الشهري، فضلاً عن ضخّ الليرات إلى السوق. أما الدور الثاني فيتمثّل في كونه أداة لقصّ الودائع (haircut)، إذ كان المودعون يحصلون من خلاله على قيمة متدنية لأموالهم المودعة لدى المصارف.
في نيسان المقبل يصبح عمر التعميم أربع سنوات يعكس فيها نهج مصرف لبنان بقيادة حاكمه السابق رياض سلامة، في التعامل مع الأزمة. هو منهج موجّه لحماية النافذين وأموالهم وحماية المصارف وأصحابها، بالإضافة إلى تخدير الناس من خلال ألاعيبه المتجدّدة. فمن الواضح أن جوهر التعميم بمثابة إشهار «بديل» مقابل المفاوضات التي أطلقتها حكومة حسان دياب في حينه مع صندوق النقد الدولي. الانخراط في برنامج مع الصندوق هو مسار معاكس لمصالح قوى الحكم وأصحاب المصارف ورجال الأعمال والنافذين. وأي خطّة «إنقاذ» من قبل الصندوق ستتضمن إعادة هيكلة للقطاع المصرفي وخطّة لتسوية أوضاعها، ما يعني بشكل تلقائي إعلان إفلاس عدد كبير من المصارف ودمج بعضها الآخر، وهيركات على الودائع. في هذا السياق، نجح التعميم لفترة معينة كحلّ بديل للمودعين في مواجهة مفاعيل العلاقة مع صندوق النقد. أيضاً جاء التعميم ليعوّض حرمان المودعين من أموالهم، إذ منحهم فتاتاً قبِلوا به.
لكن مقابل ذلك، كان على المصرف المركزي ضخّ كميات هائلة من الليرات في السوق ليشتري من خلالها «الدولارات الرقمية» من المصارف. وأولى نتائج التعميم المباشرة، تمثّلت في تضخّم الكتلة النقدية في التداول، التي ارتفعت من نحو 14 تريليون ليرة في نيسان 2020 (مع إصدار التعميم) حتى بلغت ذروتها تقريباً في شباط 2023 بقيمة 76 تريليون ليرة. دفع المواطن ثمن هذا الأمر بشكل غير مباشر عبر تضخّم هائل في الأسعار ودورات تضخّم مفرط وتآكل في المداخيل والثروة وتفكك في المؤسسات العامة والخاصة، فضلاً عن خسائر في شبكة الأمان الاجتماعية وتقديماتها من تغطية صحية وبدلات تعليم.
من نتائج التعميم 151 إطفاء جزء من خسائر القطاع المصرفي. كل دولار سدّدته المصارف للمودعين بالليرة اللبنانية، أتاح لمصرف لبنان شطب دولار من خسائره المتراكمة بالعملات الأجنبية. وفي المقابل، سيدفع مصرف لبنان ثمن هذا الشطب، عبر طبع المزيد من الليرات لإمداد المصارف بسيولة. حتى عام 2020، كانت لدى مصرف لبنان خسائر متراكمة تبلغ 42.8 مليار دولار مقابل سيولة بالعملة الأجنبية قيمتها 22 مليار دولار. والمعادلة كانت قائمة على أن ودائع الناس بالدولار، التي تبخّرت، وظّفتها المصارف لدى مصرف لبنان!
من كان الخاسر من لعبة التعاميم؟ المودع دفع الثمن مباشرة عبر «هيركات» مباشر على وديعته يمثّل الفرق بين سعر الصرف المحدّد من مصرف لبنان وسعر الصرف الفعلي في السوق الموازية. بلغ الهيركات في عام 2020 نحو 20% ووصل في آذار 2023 في حدّه الأقصى إلى 90%.