بين استيعاب جزء من اللبنانيين والقطاع الخاص صدمة “التغيّر النقدي”، وتحويلات المغتربين والرواتب المدَولَرة، يسجّل نمو الاقتصاد الوطني هذا العام ارتفاعاً قد يلامس الـ3%… حتى الآن لا تزال الحركة الاقتصادية في الأشهر الستة الأولى من السنة، أفضل مما سجّلته العام الفائت. كل ذلك معطوف على استقرار سعر صرف الدولار في السوق الموازية خلال الأشهر الأخيرة، ما يقلّص حجم الضبابية التي أحكمت قبضتها على الواقع الاقتصادي والمالي في البلاد.
رئيس دائرة الأبحاث الاقتصادية والمالية في بنك بيبلوس الخبير الاقتصادي الدكتور نسيب غبريل يُسهب عبر “المركزية” في شرح حيثيات النمو الاقتصادي الأخير في لبنان، ويشير بدايةً إلى أن هناك “أرقاماً رسمية حول الحسابات الوطنية تصدر عن إدارة الإحصاء المركزي، وآخر تلك الأرقام تعود إلى العام 2020 ولا شيء بعده، فكان أسوأ السنوات على الإطلاق لجهة الأزمة النقدية والمالية التي مرّت ولا تزال بها البلاد، حيث سجّل الانكماش الاقتصادي نسبة 26% علماً أننا لا نزال منذ العام 2018 في حالة انكماش…”.
أما التوقعات حيال العام 2021، فأشارت بحسب غبريل، إلى استمرار الانكماش… فيما يعتبر صندوق النقد الدولي أن العام 2022 سجّل 0% نمو، بينما سجّل الانكماش 2،6% بحسب البنك الدولي. لا يوجد رأي موحّد حول هذا الموضوع لغياب الأرقام الرسمية التي في حال صدرت فسيستند إليها الجميع في تقاريرهم ودراساتهم بشكل عام…”.
ويُضيف: أن المعهد الدولي لتمويل له رأي مختلف عن الصندوق والبنك الدوليين، لأن جزءاً من القطاع الخاص استطاع التأقلم مع التطورات وأجرى “إعادة تموضع” لمؤسساته بسبب تحوّل الاقتصاد اللبناني تدريجاً إلى اقتصاد نقدي ومُدَولَر كي تستطيع تلك الشركات الاستمرار وتضع خططاً ولو للمدى القصير.
وإذ يوضح أن “معادلة احتساب النمو الاقتصادي ترتكز على عوامل الاستهلاك والاستثمار والصادرات والاستيراد”، يقول غبريل: بالنسبة إلى العام 2022 وصل حجم الاستيراد إلى 19 مليار دولار وهذه الفاتورة تعود بنا إلى ما قبل الأزمة، والجميع يُدرك العوامل التي أدّت إلى ارتفاع هذه الفاتورة، منها زيادة حجم الاستيراد استباقاً لبدء تطبيق الدولار الجمركي، ارتفاع أسعار النفط عالمياً وبالتالي ارتفاع كلفة الشحن والتأمين على البضائع المستوردة، كذلك ارتفاع أسعار المواد الأوّلية والمعادن… مع الإشارة إلى أن لبنان يستورد لاقتصادَين اثنين وليس لاقتصاد واحد… في المقابل سجّل حجم الصادرات نحو 3 مليارات دولار”.
ويشير في المعادلة الحسابية للنمو السنوي، إلى أن “كل تلك العوامل المذكورة ساعدت على إظهار نسبة النو في العام 2022”.
ويقول: الأهم هنا هو أن النمو في لبنان يتأتّى بشكل مباشر من القطاع الخاص، وبجزئه الأكبر من الاستهلاك الذي أعيد تصويبه بسبب تعديل الرواتب التي أصبح جزء منها أو بكاملها بالدولار الأميركي، واستمرار تحويلات المغتربين الهادفة إلى مساعدة الأسَر اللبنانية على تلبية احتياجاتها اليومية، إضافة إلى المساعدات الاجتماعية… كلها ساعدت على التأقلم مع الوضع وعلى خلق مستوى معيّن من الاستهلاك، وللحركة السياحية دور أيضاً في ذلك.
بالنسبة إلى الاستثمار، ودائماً بحسب غبريل “على رغم أن بعض الاستثمارات ليست في المستوى المطلوب، يبقى هناك استثمارات قائمة لناحية الصيانة وتبديل المصانع واستغلال الفرص المتوفرة واستبدال الاستيراد بالصناعة المحلية… كل ذلك يولّد استثمارات ولو كانت أقل من المطلوب”.
وفي السياق، لم يستبعد أن يسجّل العام 2022 نمواً إيجابياً، مع الإقرار بوجوب انتظار الأرقام الرسمية.
كذلك بالنسبة إلى سنة 2023 يقول: يتفق صندوق النقد والبنك الدوليين على أن التوقعات لهذا العام انكماش 0،5% ( -0،5%). في حين أن المسح الفصلي لوكالة “بلومبورغ” الصادر في حزيران الفائت، يُظهر معدل آراء الخبراء والمحللين الاقتصاديين في لبنان والخارج بأن لبنان سيسجّل نمواً بنسبة 0،6% هذا العام… لكن آراءهم تختلف بين انكماش 2% في العام 2023، ونمو 5% فيه. ما يُظهر أن التوقعات المختلفة تؤكد وجود ضبابية في هذا الموضوع لكون اقتصاد لبنان أصبح نقدياً ومدَولراً، وبالتالي من الصعوبة تحديد نسبة النمو بشكل دقيق وعلمي.
ويختم: نحتاج إلى صدمة إيجابية تُعيد الثقة لتسجيل نِسَب نمو مرتفعة، وإمكانات لبنان واضحة لتحقيقها، وأبرز مثال على ذلك:
– تقرير شركة الاستشارات العالمية “بوسطن كونسالتينغ غروب” يُعلن أن لبنان يملك كل الإمكانات ليكون مركزاً إقليمياً للشركات التي تخدم بلداناً أخرى في 6 قطاعات أساسية منها: قطاع التكنولوجيا والطبابة عن بُعد…
– المؤشر العالمي “للبيئة الحاضنة لشركات التكنولوجيا الناشئة” الذي اعتبر أن لبنان من بين أفضل 100 بيئة حاضنة في العالم.
تحويل هذه الإمكانات إلى واقع، تحدٍّ كبير في ظل استحقاقات داهمة تضع لبنان على مفترق خطير على كل الجبهات… وإن نجحنا في هذا التحدّي عندها سيكون النمو بالتأكيد مرتفعاً.