أُدرج على جدول اعمال مجلس النواب اليوم، اقتراح قانون إنشاء المنطقة الاقتصادية الخاصة في البترون. لا يواجه المشروع، المدعوم أساساً من التيار الوطني الحر، معارضة نيابية فقط يقودها تيار المستقبل، “دفاعاً” عن حصرية المنطقة الخاصة في طرابلس، بل في وجهه أيضاً معارضة محلية تقودها “اللجان الشعبية في البترون”، التي طلبت إدخال تعديلات على اقتراح القانون “لإنقاذ البترون”.
بات الوضع الاقتصادي الهمّ الأول للبنانيين. السلطة تبحث عن إجراءات تقشفية من أجل خفض العجز المالي، وزيادة عائدات الخزينة العامة. وعلى الرغم من وفرة الخيارات المُتاحة أمامها، من خفض الفائدة على الدين العام ومواجهة التهرّب الضريبي وإلغاء الإعفاءات لـ”كبار القوم”، إلا أنّ قوى السلطة تريد للفئات الضعيفة اقتصادياً واجتماعياً أن تدفع وحدها الثمن. ولا تكتفي بذلك، بل تستمر في اتخاذها قراراتٍ تتناقض مع منطق التقشّف، ولكنّها مغلفة بشعارات شعبوية من قبيل “خلق فرص عمل”. هو عنوان مثير للبناني الباحث عن ضمانةٍ مادية، في هذه الظروف الصعبة. ولكن، هل يُمكن للسلطة أن تُفسّر ما الداعي، في بلدٍ يخطو خطواته الأولى على طريق الانهيار، إلى إنشاء مناطق اقتصادية متعدّدة فيه، تكون خارج النطاق الجمركي، ومعفاة من الرسوم والضرائب، ومن أحكام قانون العمل والضمان الاجتماعي؟ مناطق خاصة يتكون جزء من إيرادتها من المساهمات الملحوظة لها في الموازنة العامة، ويوحى بأنّ لها تأثيراً في الناتج الوطني والاقتصاد المحلي، في وقت لا يستفيد عملياً منها إلا أصحاب الشركات الكبيرة.
على جدول أعمال جلسة مجلس النواب اليوم، اقتراح القانون الرامي إلى إنشاء المنطقة الاقتصادية الخاصة في قضاء البترون. بدأت الرابطة المارونية العمل على هذا المشروع في الـ2014. قُدّم كاقتراح قانون من النواب أنطوان زهرا ونعمة الله أبي نصر وسامر سعادة وحكمت ديب وأسطفان الدويهي، لأنّ «لبنان بحاجة إلى مواكبة التحولات والتغييرات الاقتصادية المتسارعة والاستفادة من العولمة بهدف جذب الاستثمارات الوطنية والأجنبية والضرورية لأي اقتصاد». وأُقرّ في اللجان المشتركة بعد 5 سنوات، ليتحول إلى “إنجازٍ” شرب نخبه “تكتل لبنان القوي”. بطاقة التعريف العلنية عن المنطقة الاقتصادية الخاصة، تُشير إلى أنّها ستُعنى “بأعمال التدريب والتجارة والصناعة والتجميع والخدمات والتخزين وغيرها من النشاطات في المشاريع الاستثمارية المرتبطة بقطاعات المعلوماتية والتكنولوجيا والإلكترونيات والاتصالات والخدمات السياحية حصراً”. وأسوةً ببقية المناطق الاقتصادية، «يُعفى أصحاب المشاريع الاستثمارية من الرسوم الجمركية، وتُعفى أرباح المؤسسات من ضريبة الدخل، وتعفى إصدارات الأسهم والأوراق المالية من أي رسوم أو ضرائب”.
بدأت ترتفع أصوات الاعتراضات النيابية على اقتراح القانون، وتحديداً من جانب تيار المستقبل، ليس من باب النقاش في الجدوى الاقتصادية من إنشاء المنطقة في البترون، بل إرضاءً لأهالي طرابلس وامتصاصاً لنقمتهم، بعد إقرار إنشاء المنطقة الاقتصادية في طرابلس منذ عام 2008، من دون وضعها على سكّة التنفيذ حتى الآن. وقد سرّب “المستقبل” عبر مواقع إلكترونية قريبة منه، أنّه لن يوافق على أي منطقة اقتصادية خارج طرابلس. المشكلة في القوى السياسية، أنّها تتعامل أيضاً مع هذا الملفّ من خلفية مناطقية – طائفية: إنشاء منطقة اقتصادية «سنية» في طرابلس، يعني “أنّنا” نريد إنشاء منطقة “شيعية” في صور وأخرى “مسيحية” في البترون، فتتحقق حينها “الوحدة الوطنية”.
للمشروع معارضة أخرى، شعبية – محلية، تُعبّر عن نفسها تحت تسمية “اللجان الشعبية في بلاد البترون”. وعلى العكس من الأحزاب التي تتحرّك وفقاً لمصالحها السياسية والشعبية، تُقدّم المعارضة المحلية رأيها في المنطقة الخاصة، مبنية على ملاحظات حول اقتراح القانون، وتُضيء على الأخطار البيئية والاقتصادية والأمنية المُترتبة عنها.
المنطقة الاقتصادية في البترون، هي واحدة من المناطق الخاصة الثلاث (طرابلس – صور – البترون)، التي تسعى قوى سياسية إلى تمريرها. وكما دائماً، يُروَّج لهذه المشاريع بمعزلٍ عن خطة للدولة، توضح الأهداف والرؤية الاقتصادية التي تطمح إلى تنفيذها، حتى يكون أقلّه وجود المناطق الخاصة “مُبرّراً”. ومشروع منطقة البترون، هو نسخة مطابقة لمشروع المنطقة الاقتصادية في طرابلس، ما يؤكد أنّ المعنيين لم يلحظوا أي خصوصية لقضاء البترون، ولا استراتيجية اقتصادية واضحة.
يتشكّل اقتراح القانون الأساسي للمنطقة الاقتصادية في البترون من 38 مادة، “تُشرّع” استفادة القطاع الخاص من امتيازات القطاع العام، مع شبه غياب لرقابة الدولة. البداية من منح مسؤولية “التشغيل واستثمار المنطقة كلياً أو جزئياً” لمُشغّل، يتولّى إنشاء المنطقة وتأهيلها وتجهيز بنيتها “وغيرها من الأمور اللازمة”. ويستفيد المُشغّل من إمكانية تأجير جزء من المساحات الداخلة في المنطقة المخصصة للأشغال، واستيفاء الإيجارات والرسوم من المؤسسات. القطاع الخاص لا يُحول إيرادات عامة إلى جيبه فقط، بل يجوز منحه “إقامة مشاريع إنتاجية مثل الكهرباء وخدمات الاتصالات والماء وغيرها وتشغيلها بصورة مستقلة في المنطقة بأسعار منافسة”. يحلّ المُشغّل محل الإدارات العامة، ويتحول إلى منافسٍ لها على أرضها، مستفيداً من بنيتها التحتية والتحفيزات التي تُقدّمها للمؤسسات. أما إدارة المنطقة الاقتصادية، فستكون لـ”الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية الخاصة في قضاء البترون”، التي “لا تخضع للنظام العام للمؤسسات العامة، ولا تخضع لرقابة كلّ من مجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي”، جُلّ ما ذُكر هو خضوعها لرقابة ديوان المحاسبة المؤخرة، وهي لا ترتبط إلا برئيس مجلس الوزراء. أحد المطالب الأساسية اليوم في مجال مكافحة الفساد، إخضاع كلّ المجالس والهيئات والمؤسسات العامة للرقابة المسبقة لديوان المحاسبة، فكيف يوضع بند كهذا؟ واردات الهيئة مُقسمة بين حصة لها من الموازنة العامة، وواردات استثمار المنطقة، وأموال العمليات التي تقوم بها، والموارد التي تلحظها القوانين والأنظمة، والهبات والعوائد الأخرى. وهي تملك صلاحيات شاملة، تتعلق بكلّ ما له علاقة بالمنطقة الاقتصادية: تكليف المشغل، الإشراف على الأعمال والخدمات، تأمين التنسيق مع الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات، وضع شروط الترخيص والموافقة عليها، البت بطلبات الترخيص بالعمل.
في مقابل منطقة طرابلس الاقتصادية “السُّنية” تأتي منطقة البترون “المسيحية” ومنطقة صور “الشيعية”!
في اقتراح القانون الأساسي، تمتد المنطقة الاقتصادية على مساحة أكثر من 600 ألف متر مربع، تشمل بشكل رئيسي أملاكاً تابعة لدير مار يوحنا مارون – كفرحي، فيما مناطق “وادي سيليكون” في العالم لا تكون بحاجة إلى أكثر من 50 ألف متر مربع”. كان هذا واحداً من الأسباب التي دفعت “اللجان الشعبية في البترون” إلى الاعتراض، وإصدار ثلاثة بيانات، فضلاً عن لقاءات مع كلّ القوى السياسية والبطريركية المارونية، من أجل فرض تعديلات على مشروع القانون. في آخر بيان (صدر يوم 11 نيسان الجاري) ذكر بيان “اللجان” أنّ اقتراح القانون “يسمح لمشغلي المنطقة بأن يُعدلوا لاحقاً في المساحة وحدود المنطقة ويغيروها تبعاً لمصالحهم… وما يزيد في حذرنا تصاريح تطرح إنشاء المنطقة الاقتصادية في وسط قضاء البترون حيث تكمن الأخطار البيئية والديمغرافية”، خاصة أنّه في اقتراح القانون لا يوجد ضوابط بيئية واضحة، ولا دراسة أثر بيئي للمشروع. أما في المردود الاقتصادي، فبحسب البيان “ستدفع خزينة الدولة تكاليف إنشاء المنطقة الاقتصادية وستنخفض قيمة الضرائب من خلال عدم الجباية من الشركات والمؤسسات المنشأة داخل المنطقة الاقتصادية مهما طال الزمن وبلغت الأرباح”. وتطرح اللجان الشعبية نقطة أساسية، هي أنّ “أجور العمال غير خاضعة للحد الأدنى للأجور ولا يستفيدون من الضمان الاجتماعي، ولا يخضعون لقانون العمل اللبناني. وهذا يعني احتمال حرمانهم الاجازات وتعويض الصرف التعسفي وتعويض الصرف العادي ومن ديمومة العمل”.
الرئيس السابق لرابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية الدكتور عصام خليفة، هو أحد الفاعلين الرئيسيين في “اللجان الشعبية”، من أجل تعديل النقاط “التي تُشكّل خطورة على المنطقة”. تشكلت لجنة من العميد رزق الله فريفر وسليم سليمان وآخرين، ووضعوا تعديلاتهم على اقتراح القانون، “الذي يقول كلّ السياسيين الذين سألتهم إنهم لم يقرأوه”! ومن التعديلات التي طرحتها اللجنة أنّ الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لا تملك حقّ الاستملاك، “وتخضع لرقابة كلّ من مجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي. ويكون مركزها في سلعاتا أو حنوش الساحليتين دون سواهما”. وأُضيف أنه على المشغل تسديد النسبة المالية المتوجبة عليه للهيئة من استيفاء بدلات الإيجار، مع التشديد على تحظير القيام بأي “صناعات كيمائية، وتحويل، ومعادن، وتلوين وعزل ونسيج، وكافة أنواع الصناعات الثقيلة والمتوسطة الحجم والثقيلة التي تشكل خطراً على البيئة”. وتطالب اللجنة بتحديد الحد الادنى للبنانيين المستخدمين بـ75% من مجمل العاملين، بعدما كان 50%.
“لا شيء مضمون” لجهة تعامل المجلس النيابي مع هذه التعديلات. يقول خليفة إنّ المطلوب “التريث والمزيد من الحوار مع الاختصاصيين من أجل سدّ الثغرات”، مُستغرباً الاستعجال في إنشاء منطقة اقتصادية، “في وقت تمرّ فيه الدولة بأزمة”.
الخطورة في الأمر، وفي بلد لا قدرة لسلطاته على السيطرة على مرافق عامة أو أسواق حرة، أن تتحول المناطق الاقتصادية إلى “جزر متفلتة” برعاية القانون. وتتحول إلى “مشتى” للصناعات والمؤسسات التي تجني ملايين الأرباح في الخارج، لتُقونن تهربها من الضرائب وتجني المزيد من الثروات، على حساب الصناعات المتوسطة أو الصغيرة.