توقيع التفاهم المبدئي مع صندوق النقد: خطّة “الهيركات” العظيم

في الخطّة التي تم طرحها أمام بعثة صندوق النقد في شهر شباط الماضي، قرّرت الحكومة تحميل المودعين 55% من الخسائر التي قدّرتها بنحو 69 مليار دولار، عبر دفعها بالليرة وبالتقسيط، على مدى أكثر من 15 سنة، وبأسعار صرف مجحفة مقارنةً بسعر الصرف الفعلي. بعثة الصندوق عبّرت يومها عن رفض الصندوق لهذا النوع من المقاربات، نظرّا لأثرها المدمّر على سياسة مصرف لبنان النقديّة على المدى الطويل، وعدم قدرة العملة المحليّة على تحمّل ضخ السيولة بالليرة اللبنانيّة بهذا الحجم خلال فترة تصل لنحو عقد ونصف العقد من الزمن. وبنظر الصندوق، إذا تم تهشيم قيمة العملة المحليّة بهذا الشكل على المدى الطويل، فمن المستحيل تحقيق الانتظام على مستوى الاقتصاد المحلّي، حتّى لو نجحت الخطّة في معالجة فجوة الخسائر المتراكمة في المصارف.

لهذا السبب، وفي جولة المحادثات الأخيرة التي حصلت هذا الأسبوع، ذهب الوفد الحكومي إلى طرح استبدال الاقتصاص المقنّع (عبر السداد بالليرة وبسعر صرف مجحف) بالاقتصاص الصريح والمباشر، أي عبر الهيركات الفوري من قيمة الودائع. مع الإشارة إلى أنّ الخطة لم تخرج كليًّا من منطق سداد الودائع بالليرة اللبنانيّة، لكنّ حجم هذه العمليّات انخفض بنسبة 65%، لمصلحة زيادة الشطب المباشر من قيمة الودائع المتبقية في المصارف. وللقيام بهذا الأمر، عادت الخطّة –كسابقتها- إلى التمييز ما بين الودائع حسب حجمها، وحسب مصدرها، مع وضع إجراءات أقسى في ما يخص الودائع التي تم تحويلها من الليرة اللبنانية إلى الدولار الأميركي في الماضي، أو تلك التي تراكمت كفوائد على الودائع الموجودة بالعملات الأجنبيّة.

باختصار، لا يمكن توصيف ما تم تقديمه إلى بعثة الصندوق بأقل من عبارة “الهيركات العظيم” على الودائع المصرفيّة، وهو ما يفسّر السريّة التي تُحاط بها المحادثات ونتائجها اليوم.

الاتفاق المبدئي والاتفاق النهائي

أنجز وفد الصندوق الاتفاق المبدئي مع الوفد اللبناني المفاوض اليوم، لكن هذا الاتفاق المبدئي لن يملك أي أثر فعلي على مستوى إنجاز التفاهم النهائي ما لم ينجز لبنان عدّة خطوات ملموسة مطلوبة منه. فكما بات معلوماً، ربط وفد الصندوق توقيع الاتفاق النهائي مع لبنان بشروط واضحة وحاسمة، لا يمكن المضي قدمًا في الاتفاق مع لبنان من دون القيام بها. وهذه الشروط سترتبط بإجراءات عمليّة على مستوى القوانين التي يفترض أن يتم إقرارها في المجلس النيابي، أو الخطط التي يجب أن تقرّها الحكومة أو المصرف المركزي، من قبيل إقرار قانون تعديل السريّة المصرفيّة وإنجاز التدقيق في ميزانيّات مصرف لبنان وتوحيد أسعار الصرف وغيرها.

وبعد إنجاز هذه الشروط، سيكون بإمكان لبنان الانتقال إلى توقيع الاتفاق النهائي، الذي سينص على حصول لبنان على قرض توازي قيمته ثلاثة مليارات دولار، على دفعات وعلى امتداد فترة تصل إلى 46 شهراً. وخلال هذه الفترة، سيخضع لبنان إلى مراقبة دوريّة، عبر تقارير سيتم رفعها إلى إدارة الصندوق كل ثلاثة أشهر، لتلمّس تقدّم لبنان في تطبيق الإصلاحات المنصوص عنها في الخطّة الماليّة الشاملة المتفق عليها. أي تلكّؤ أو تأخير في تنفيذ هذه الإصلاحات، سينتج عنه إيقاف الدفعات التي يستفيد منها لبنان، بانتظار تصحيح وضعه والعودة إلى مسار التصحيح المطلوب منه.

بمعنى آخر، لن يعني الاتفاق المبدئي تعبيد الطريق أمام توقيع التفاهم النهائي لاحقًا، والذي سيبقى مربوطًا بالشروط التي نص عليها بيان بعثة صندوق النقد الصادر اليوم. وفي حال توقيع التفاهم النهائي في المستقبل، ستبقى الاستفادة من الدفعات مرهونة بالتزام لبنان بالإصلاحات المنصوص عنها في الخطّة الماليّة الشاملة. وكل هذه الخطوات المطلوبة من لبنان، تحول دونها عقبات لا تنتهي، من جانب السلطة السياسيّة التي تتعارض مصالحها مع متطلّبات الحل والتصحيح المالي، ناهيك عن تعارضها مع شروط الصندوق نفسه. ولهذا السبب بالتحديد، فطريق لبنان باتجاه الاستفادة من برنامج القرض ستبقى محفوفة بالمخاطر، حتّى بعد أن تم توقيع التفاهم المبدئي اليوم.

تخبّط وغياب للقيادة

مصادر متابعة للمباحثات الأخيرة أشارت إلى أن بعثة الصندوق أبدت الكثير من الامتعاض من التخبّط الذي يحكم عمل المؤسسات الدستوريّة اللبنانيّة، وغياب القيادة السياسيّة القادرة على فرض التزام لبنان بمسار التصحيح المطلوب منه. مع الإشارة إلى الشروط المبدئيّة المنصوص عنها في التفاهم المبدئي، والتي يفترض إنجازها قبل توقيع التفاهم النهائي، ليست سوى الشروط التي أمضى الصندوق أشهراً بالمطالبة بها للتمكّن من المضي قدمًا بمسار التفاهم مع لبنان على برنامج القرض، من دون أن تتمكّن الدولة اللبنانيّة من إنجازها، بل ومن دون أن تتبيّن حتّى اللحظة أسباب عرقلتها من الجانب اللبناني.

في كل الحالات، وبعد إصدار بيان بعثة الصندوق اليوم، باتت الإصلاحات المطلوبة من الجانب اللبناني كشروط قبل التفاهم النهائي واضحة للعيان، وبات من السهل تحديد المطلوب من الجانب اللبناني للتفاهم مع الصندوق. لكنّ الإشكاليّة الأبرز هي عدم معرفة اللبنانيين حتّى اللحظة بتفاصيل خطّة توزيع الخسائر التي يجري التحضير لها حسب المباحثات، والتي سيتم على أساسها توقيع التفاهم النهائي مع الصندوق.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةواشنطن: خط أنابيب الغاز المقترح من شرق المتوسط لأوروبا غير مجدٍ
المقالة القادمةالمطاحن تتوقّف عن العمل بقرار جماعي