أُوقف “الصندوق الأسود”. رياض سلامة في نظارة العدلية. الخبر ليس عادياً، لكن من الصعب الآن بناء التكهنات عليه في بلد لا تُعرف وجهة أموره وقضاياه، لا القضائية ولا السياسية لا حتى الأمنية. ليس التوقيف “صحوة” قضائية أو “جرأة”، والقضاء كما هو معلوم، مسيّس حتى في أصغر التفاصيل والملفات، ولا ندري إن كان ما حصل صفقة، ولا يهمنا توقيت التوقيف، أو الضغوط التي أدت الى التوقيف. ما نعرفه ونعلمه ونلمسه عشنا فصوله، أنّ رياض سلامة كان موظفاً خارقاً و”خطاً أحمر”، له صلاحيات تخوّله أن يضرب بسيفه، لا يمتلك زمام العنف، لكنه قاد مصرف لبنان إلى “بحبوحة” لجيوب نافذين، وإلى أحداث الصدمات النفسية والسكتات الدماغية والقلبية والأزمات الاجتماعية والاقتصادية، أو “خرب بيوت العالم”، شحّرهم.
ليست الدول الكبرى التي أصدرت مذكرات توقيف بحق رياض سلامة وفرضت عليه عقوبات، بمنأى عن بالونه وصدماته، سبق لها أن منحته الجوائز والتهاني والألقاب والامتيازات. قبل أن تسقط بَقَرته، تكاتف داخل وخارج في تبييض صفحاته، جعلوه الأفضل، من دون التدقيق في سياساته وفوائده وتسليفاته وسياسات دولته. قالوا إنه من أنجح حكام المصارف في العالم.
ليس القضاء اللبناني بمنأى عن أفعال رياض سلامة… في مرحلة عندما كانوا ينفخ ويضخم رواتب قضاة ووآخرين في السّلك، ويلجأون الى رياض لتأمين السيولة أو استدانتها أو فسادها.
ليس الموطنون بمنأى عن بالون رياض سلامة. لسذاجتهم، كانوا يبيعون أملاكهم وأراضيهم وشركاتهم وفلذات أكبادهم، ليضعوا دولارتهم وليراتهم في المصارف، ينتظرون الفوائد غير المنطقية. كانوا يستثمرون كسلهم ويراكمون ثرواتهم وفوائدهم، التي في الواقع، كان بعضها أو الكثير منها منهوباً من مصرف لبنان وأموال الدولة، ووُضعت في خزائن المصارف وتلاشت بين ليلة وضحاها. استطاع رياض سلامة ودولته، ومعهما المصارف التي تنامت كالفطر، إغراء مئات آلاف الاشخاص، واقتيادهم إلى خراب بيوتهم وإفلاس جيوبهم ودولتهم.
أيضاً، لا نستطيع القول إن السلطة السياسة بكافة تلاوينها وأطيافها ومحروميها واشتراكييها وليبرالييها وقبائلها ورجال دينها وأبرز أعلامييها وكبار أحزابها وصغارها… كانت بمنأى عن سيف رياض سلامة. السلطة بأمها وأبيها وأبنائها وأحفادها وحواطيها ومكاريها، كانت شريكته، تراعاه ويرعاها وتحتفي به ويحتفي بها، سواء في النهب الموصوف أو في أمور أخرى تتعلق بالأموال غير المشروعة. كان رياض قِناعاً أو مجموعة أقنعة لكل السياسيين في لبنان، راضياً بدوره وخطاياه، وشاهداً على الفتك بثروات المواطنين، وشاهداً على تراكم ثروات الأثرياء، وشاهداً على تهريب الأموال. وكان شريك السلطة في كل شيء، أو يغطي فساد السلطة في كل شيء.
مِن أوجَب القضايا أن يُحاسب رياض سلامة، لكن الخشية من أن يكون توقيفه مجرد إلهاء، للتغطية على أمور اخرى. هذا في وقت تعجز الدولة عن حل لقضية الودائع، والأرجح أنها ذهبت مع الريح، أكلتها “الدولة” ومشاريع الدولة وأمراء الدولة، وقضمتها حاشيات وزبائنيات الزعماء.
لا يحق للحزب الذي تسبب بهدر مليارات الدولارات في كهرباء لبنان، أن يحتفل بتوقيف سلامة، أن يجعل من سلامة قنيلة دخانية للتعمية على قضايا أخرى. ولا يحق للسياسي الذي استفاد بأكثر من مليار دولار من أزمة الليرة أن يتحدّث عن استقلالية القضاء.
أخيراً، يحتفل كثر بتوقيف رياض سلامة، هم يدركون أن التوقيف ربّما مسرحية جديدة. وحتى لو توافرت نيّة جدّية لمحاكمة “الحاكم”، مثل العادة، تقترب السلطة القضائية من موظف لكنها لا تستطيع الاقتراب من الزعماء، تقترب من الوكيل دون الأصيل.
وما هرب قد هرب، وما ضاع قد ضاع.