ثقب أسود في الهيئة العليا للإغاثة

فؤاد السنيورة ليس شخصاً، بل نهج. هذه خلاصة سلوك الحكومات المتعاقبة منذ عام 2005 وصولاً إلى حكومة نواف سلام اليوم، إذ تستمر بتطبيق نهج السنيورة في ضرب قانون المحاسبة العمومية بعرض الحائط، ومنح وصرف سلف الخزينة بلا ضوابط، ثمّ البحث عن إبراء ذمّة بعيداً من المساءلة أو التدقيق.

فقد تلقى مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة، ملفاً مرفوعاً من الهيئة العليا للإغاثة التي تتبع لرئاسة مجلس الوزراء، يتضمن تغطية المبالغ التي أنفقتها بواسطة سلف الخزينة عبر تشريع خاص، ما فجّر جدالاً واسعاً بين الوزراء خلص إلى أنه من الضروري التدقيق في المبالغ التي أنفقتها الهيئة. فهل سيعمد مجلس الوزراء إلى ضبضبة الملف أم سيفرض خضوع الهيئة للتدقيق؟

وهل سيشمل التدقيق مبالغ مالية أنفقتها الهيئة عبر التبرّعات والمساهمات والهبات أم سيقتصر على سلفات الخزينة فقط؟

على نسق ما جرى في حكومة ميقاتي، والتي أقرّت عام 2024 مشروع قانون يرمي إلى الطلب من مجلس النواب فتح اعتمادات إضافية في الموازنة لتغطية المبالغ المدفوعة كسلف خزينة منذ عام 2020، حاولت الهيئة العليا للإغاثة تهريب قانون مماثل يغطّي نفقاتها بواسطة سلف الخزينة المتراكمة التي بلغت 2174 مليار ليرة.

ورغم أن وزارة المال قالت إن سلف الخزينة التي منحت للهيئة، أعطيت خلافاً للمادة 203 من قانون المحاسبة العمومية التي تنصّ على أن سلفات الخزينة تُعطى من موجوداتها: لتموين مستودعات الإدارات العامة بلوازم مشتركة بين أكثر من إدارة واحدة، وشراء مواد قابلة للتخزين ومعدّة للاستعمال في سنة مالية جارية أو لاحقة، وتغذية صناديق المؤسسات العامة والبلديات وكذلك الصناديق المستقلة المنشأة بقانون.

ووفقاً لتبريرات الهيئة، صرفت هذه الأموال تحت عناوين عامة مثل «إدارة شؤون الكوارث على اختلاف أنواعها»، فضلاً عن «القضايا المحالة إليها من مجلس الوزراء».

فالهيئة لا تملك موارد ذاتية ثابتة، وتنحصر إيراداتها بما يخصص لها من اعتمادات في الموازنة العامة، ولكنها تعتمد بشكل كبير على الهبات والتبرّعات والمساهمات، بالإضافة إلى سلف الخزينة.

وفي السنوات الممتدة من عام 2005 وحتى عام 2016، تربعت الهيئة على عرش الجهات الأكثر صرفاً بواسطة سلف الخزينة، وحصلت على 47 سلفة من أصل 242 سلفة خزينة صرفت خلال 11 سنة، أي ما نسبته 20%.

وبلغت قيمة هذه السلف حينها 398 ملياراً و363 مليون ليرة، (263 مليون دولار وفقاً لسعر صرف يبلغ 1507 ليرات مقابل كل دولار).

وحتى نهاية عام 2018، وبحسب تقارير ديوان المحاسبة، تضاعفت قيمة سلف الخزينة التي حصلت عليها الهيئة العليا للإغاثة 2.5 مرّة، وبلغت 980 مليار ليرة، أي 647 مليون دولار وفق سعر الصرف السابق.

الواقع، لا أحد يعلم كيف تنفق الهيئة أموالها، وكيف يتم التدقيق فيها. فالمسألة المتعلقة بسلف الخزينة وردّها من الهيئة لوزارة المال، هو أمر قانوني محاسبي بامتياز يتعلق بقواعد تسيير المرفق العام، أما المسألة الأكثر أهمية، فهي تتعلق بكيفية الإنفاق والرقابة عليه.

وسلف الخزينة في هذا المجال، قد تمثّل حصّة صغيرة نسبياً مقارنة مع ما تلقته الهيئة من هبات ومساهمات وتبرعات في العقود الأخيرة، وقد أنفقتها من دون أن تُجرى أي رقابة فعلية على أعمالها.

فعندما تتلقى الهيئة هذه الهبات والتبرعات والمساهمات يفترض أن تسجّل في قيود ميزانيات الهيئة، وعند الإنفاق يفترض أن تسجّل باعتبارها نفقات، وهذا أمر يستحق الكثير من التدقيق.

فهل صرفت بقرارات مجلس الوزراء، أم صرفت بقرارات فردية من رئيس مجلس الوزراء ورئيس الهيئة؟ هل صرفت على مسائل متصلة بالكوارث الطبيعية، أم صرفت على أشغال عامة؟

هل فيها هدر وفساد؟ كل هذه الأسئلة قد تظهر عليها إجابات بسيطة في الشقّ المتعلق بسلفات الخزينة، إنما الأهم هو أن تخضع ميزانيات الهيئة بكل تفاصيلها إلى عملية رقابة شاملة قبل منحها أي براءة ذمّة على شاكلة «تغطية سلفات الخزينة بقانون».

فبمجرّد طلب براءة ذمّة عن السنوات الماضية من دون إرفاق الملف بأي مستندات تثبت عمليات الإنفاق وآلياته، يثير الأمر الشكوك بصحّته ويجعل الهيئة العليا للإغاثة تدور في إطار محاولة سدّ «الثقب الأسود».

أيضاً يظهر من هذه القضية أن ملف سلفات الخزينة هو باب مشرّع للإنفاق غير القانوني، إذ إن لائحة الجهات التي حصلت على سلف ولم تبادر إلى تسديدها طويلة، وفقاً لتقارير ديوان المحاسبة، وتشمل: المعهد الوطني للموسيقى، الصندوق المركزي للمهجرين، المصرف الوطني للإنماء الصناعي، الجامعة اللبنانية، تلفزيون لبنان، تعاونية موظفي الدولة، المديرية العامة للحبوب والشمندر، هيئة إدارة السير، مؤسسة مياه البقاع، مؤسسة إليسار، مؤسسة كهرباء لبنان، مصلحة سكك الحديد، مصلحة استثمار مرفأ صيدا، المستشفيات الحكومية، مجلس تنفيذ المشاريع الإنشائية، مجلس الجنوب، مجلس الإنماء والإعمار، مؤسسة مياه لبنان الشمالي، مؤسسة مياه لبنان الجنوبي، المؤسسة الوطنية للاستخدام، المؤسسة الوطنية لضمان الاستثمارات، المؤسسة العامة للإسكان، مؤسسة إيدال.

مصدرجريدة الأخبار - فؤاد بزي
المادة السابقةكازينو لبنان: فتح المغارة أم تغيير الحارس؟
المقالة القادمةالدولة المساهم الإيجابي الوحيد للاقتصاد في 2024