جرائم المقالع والكسارات في لبنان تتزايد… وآخرها انفجار “التويتة” في زحلة

بين أحضان الطبيعة اللبنانية، تلك اللوحة التي رسمتها يد الخالق بعناية، تتعالى أصوات الجرافات، وتهدر آليات المقالع والكسارات، كوحوش تلتهم جسد الأرض بلا هوادة. هذه الأنشطة، التي تُلبس عباءة الاقتصاد والتنمية، تخفي في طياتها جرائم بيئية مروعة، تفتك بالبيئة وتهدد التوازن البيئي الهش، في بلد اعتادت طبيعته أن تكون ملاذاً للسكينة والجمال.

في لبنان، حيث يُقال إن الجبال تحكي قصص الزمن، تتحول تلك الجبال بفعل المقالع إلى مشاهد قاحلة، وكأنها ساحات معارك خلفت دماراً بلا نهاية. وتشير الأرقام إلى أن هناك أكثر من ألف مقلع يعمل في البلاد، العديد منها غير مرخص، ما يعني أن هذه الجرائم تُرتكب على مرأى الجميع، دون حسيب أو رقيب، مستفيدة من تواطؤ سياسي يتقاطع مع مصالح أصحاب المال والنفوذ.

لا يقتصر الانعكاس السلبي لهذه المقالع والكسارات على تشويه المناظر الطبيعية، بل يمتد ليغير ملامح الأرض نفسها. الانفجارات التي تُستخدم لتفتيت الصخور تُحدث ارتجاجات أشبه بالزلازل المصغرة، مما يتسبب في تصدع خزانات المياه الجوفية وتغيير مساراتها التي استغرقت ملايين السنين لتتشكل. هذا التحول لا يدمر فقط مخزون المياه الثمين، بل يعيد تشكيل وجه الطبيعة بطرق غير متوقعة، مهدداً الزراعة، ومؤثراً في استقرار التربة، مما يجعل الأراضي أكثر عرضة للانهيارات.

وفي غياب إرادة سياسية حقيقية لتنظيم هذا القطاع، تتواصل المحسوبيات كشبكة عنكبوتية تمسك بخيوطها أطراف نافذة، تحمي المخالفين وتغض الطرف عن الانتهاكات البيئية التي يرتكبونها. هذا التواطؤ يجعل من المساءلة القانونية مجرد سراب، ويحوّل الجهود البيئية إلى صرخات في وادٍ لا يسمعها أحد.

تعديات لا تنتهي: السواحل والأنهار في خطر

لكن الكارثة لا تتوقف هنا، فبينما تبتلع المقالع الجبال، تتعرض السواحل والأنهار لتعديات جسيمة، وكأن البيئة كلها أصبحت مسرحاً للتجاوزات، بحيث يحرم ردم الشواطئ وبناء المنشآت غير الشرعية المواطنين من حقهم في الوصول إلى البحر، ويدمر الموائل البحرية التي تعيش فيها آلاف الكائنات.

أما الأنهار، التي كانت في يوم ما شرايين الحياة، فتتحول بفعل التلوث والإهمال إلى مجارٍ للمخلفات، مما يعكس صورة قاتمة لمستقبل بيئي مظلم.

نداء لإنقاذ لبنان: البيئة ليست رفاهية بل ضرورة

وسط هذا المشهد القاتم، تقف البيئة اللبنانية كجسد أنهكته الجراح، تنتظر من ينقذها. وما لم تُكسر دائرة التواطؤ والمحسوبيات، ويُفعل القانون لحماية هذه الثروة الوطنية، ستستمر الطبيعة في دفع الثمن، وسيجد اللبنانيون أنفسهم عاجزين عن استعادة ما فقدوه من موارد وتوازن بيئي. لذلك، البيئة ليست مجرد رفاهية، بل هي عماد الحياة والصحة والاقتصاد. لبنان بحاجة ماسة إلى رؤية جديدة تتعامل مع الطبيعة على أنها ثروة لا تُقدر بثمن، تتطلب الحماية من أجل بقاء الإنسان واستمراره، قبل أن يتحول المشهد برمته إلى مأساة لا رجعة فيها.

وفي هذا السياق، تبرز “جمعية الأرض” في لبنان كصوتٍ يُعري المخالفات، مواجهةً جرائم بيئية تُرتكب دون أي غطاء قانوني أو رادع. ووفقا ما يصرّح به رئيس ومؤسس “جمعية الأرض” في لبنان السيد بول أبي راشد لـ “الديار”، فقد” استقبلت الجمعية في عام 2024 وحده 263 شكوى من مواطنين حول مخالفات بيئية متنوعة. هذه الشكاوى شملت تعديات على الأنهار، واستباحة المقالع والكسارات، وفتح طرقات غير شرعية”.

ويؤكد “أن غياب المساءلة يجعل البلاد عرضةً لانهيار بيئي، إذ أن من يخطئ دون محاسبة لن يتردد في تكرار أفعاله. فالجزاء هنا ليس مجرد أداة قانونية، بل هو ضرورة للحفاظ على ما تبقى من موارد البلاد وصون حياة المواطنين من تبعات هذه الجرائم”.

كارثة بيئية متعددة الأوجه!

ويُطلق أبي راشد، “صرخة مدوية تتخللها تساؤلات سياسية وبيئية تعكس حجم التدهور في الملف البيئي”. إذ يسأل: “كيف يمكن تسمية السيد نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة مجدداً بعد أداء حكومته خلال السنوات الأربع الماضية، خصوصاً في الملف البيئي؟ وهل يملك القدرة على تنفيذ تعهّد رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون بالحفاظ على البيئة”؟

الإجابة، بحسب أبي راشد، “تظهر في سلسلة المخالفات والتجاوزات البيئية التي شهدتها تلك الفترة”. ويكشف عن “قائمة طويلة من الأزمات البيئية التي أُهملت أو ساهم في تفاقمها”.

ويُشير إلى أن “الحكومة السابقة كادت تُعيد العمل بمشروع سد بسري، الذي يهدد 6 ملايين متر مربع من الأراضي الزراعية والأحراج والمواقع الأثرية”. كما اقتُرح “فتح مطامر جديدة في مناطق حساسة مثل حوض نهر الكلب وفوق نبع جعيتا، رغم تأثيرها المدمر على المياه الجوفية التي تغذي بيروت”.

ويلفت الى ان “السنوات الأربع الأخيرة، شهدت انتشارا واسعا للحفريات والمقالع، بما فيها مشروع “الكسارة المتنقلة” في وادي الجماجم، دون دراسات لتقييم الأثر البيئي. كما سمحت الحكومة بتشغيل مصانع الإسمنت في مقالعها رغم معارضة السكان المحليين، مما أسهم في تسريع التصحر وتدهور الغابات، خاصةً أشجار الأرز والشوح واللزاب، التي جرى الاتجار بها خارج لبنان من دون رقابة”.

الجدير بالذكر أن المكبات العشوائية، البرية منها والبحرية، شاعت بشكل غير مسبوق، مما تسبب بحرائق مدمرة طالت الأحراج والأراضي الزراعية. وفيما يتعلق بالإدارة المتكاملة للنفايات، أُهمل تطبيق القانون رقم 80/2018، وتعطّل المجلس الأعلى للبيئة، ما أدى إلى غياب التنسيق والتخطيط.

اعتداء على التراث والشواطئ

ويتابع ابي راشد “تعرضت المواقع الأثرية والطبيعية لتعديات ممنهجة، أبرزها الاعتداء على موقع نهر الكلب الأثري، ومنح تراخيص بناء في مواقع حساسة كـ “مغارة الفقمة” في عمشيت، موطن سادس حيوان مهدد بالانقراض عالميا. كما استمرت عمليات شفط الرمال وإغلاق حق الولوج إلى الشاطئ، في خرق واضح لاتفاقية برشلونة لحماية السواحل”. ويضيف :” لم يُعقد المجلس الأعلى للصيد البري طوال السنوات الأربع الماضية، ما أدى إلى فوضى في الصيد وتدهور الحياة البرية. أضف إلى ذلك السماح برمي الردميات الناتجة من الحرب في 1800 موقع مقلع ومرملة، ما يهدد بشكل مباشر الثروة المائية اللبنانية بالتلوث”.

وينتقد “الإجراءات الحكومية التي سهّلت تمرير مشاريع مضرة بالطبيعة، إذ اكتفت وزارة البيئة بطلب خطط إدارة بيئية أو تدقيق بيئي بدلاً من فرض دراسات تقييم الأثر البيئي”.

صرخة استغاثة بيئية

ويناشد أبي راشد “بضرورة إعادة الاعتبار للملف البيئي”، مشددا على “الحاجة الماسة إلى وجود حراس للأحراج، وفرض رقابة صارمة، واحترام القوانين البيئية. فاستمرار هذه التجاوزات لن يؤدي إلا إلى مزيد من الدمار الذي يهدد صحة الإنسان، والأمن الغذائي، والتوازن الطبيعي”.

ويضيف “نحن بحاجة ماسة إلى حكومة تعطي القطاع البيئي حقه، لأنه أساس للصناعة والسياحة والصحة. فالبيئة ليست رفاهية يمكن التغاضي عنها أو تأجيلها، بل هي الركيزة التي تقوم عليها حياة الإنسان واقتصاده واستقراره. من دون بيئة سليمة، لا يمكن للصناعة أن تزدهر، إذ تعتمد على الموارد الطبيعية في الإنتاج. ولا يمكن للسياحة أن تستمر، لأن جمال الطبيعة اللبنانية هو ما يجذب الزائرين، سواء كانت جبال الأرز، أو شواطئ البحر المتوسط، أو المواقع الأثرية التي تندمج مع الطبيعة في لوحة فريدة. وحتى الصحة، التي هي حق أساسي، تصبح مهددة في ظل التلوث، وانتشار النفايات، وغياب الرقابة البيئية”.

ويتطرق الى “حادثة الانفجار في منطقة التويتة في زحلة خلال الـ 24 ساعة الماضية كمثال صارخ على الإهمال الكارثي، الذي يضرب البيئة اللبنانية. لم يكن الانفجار مجرد حادث عابر، بل كان من شدة قوته كأنه زلزال كبير، مما قد يؤدي إلى تصدع الطبقات الصخرية والخزانات الجوفية، وبالتالي تغير مسار المياه الجوفية التي استغرقت ملايين السنين لتتشكل. هذا التغيير الجذري في تدفق المياه الجوفية قد يكون له تداعيات خطرة على الزراعة التي تعتمد على هذه الموارد، وعلى المجتمعات التي تعتبرها شريان حياة يومي”.

ويؤكد ان “Terreliban” قد تقدمت بشكوى إلى القاضي منيف بركات، ومحافظ البقاع، والأجهزة الأمنية المختصة، بالإضافة إلى القاضي البيئي. كما دعت الجمعية رئيس الجمهورية جوزاف عون الى التدخل العاجل لوقف الجرائم البيئية المتكررة، لا سيما المخالفات البحرية والنهرية التي تُزعزع صحة المواطنين وبيئتهم”.

في الخلاصة، من الواضح ان المقالع والكسارات التي تعمل دون ضوابط أو رقابة قد زادت من تعقيد المشكلة، حيث أدى الحفر العشوائي واستخدام المتفجرات إلى تدمير النظم البيئية الهشة، وزيادة خطر الانهيارات الأرضية. هذه الأعمال، التي يُفترض أن تخضع لدراسات تقييم الأثر البيئي، تُنفَّذ بطريقة همجية تُظهر تجاهلاً تاماً لقوانين حماية البيئة، مما يضعف البنية الجيولوجية للمناطق المتضررة، الى جانب ان تغيير المياه الجوفية ليس مجرد أزمة بيئية، بل يعد تهديداً وجودياً. اذ، عندما تختل التوازنات الطبيعية التي استغرقت ملايين السنين لتتشكل، يصبح الإنسان في مواجهة كارثة يصعب احتواؤها. وبالتالي، يجب على أي حكومة جديدة أن تعتبر البيئة أولوية وطنية، لأن إصلاح القطاع البيئي ليس ترفًا، بل هو استثمار في بقاء لبنان.

مصدرالديار - ندى عبد الرزاق
المادة السابقةسلام بعد تكليفه: الأزمة الاقتصادية وإعادة إعمار لبنان على رأس الأولويات
المقالة القادمةلهذه الاسباب لن يتراجع سعر صرف الدولار قريبا