من دون الغوص في تفسيرات “زلّات اللسان” في علم النفس، فإن “هفوة” وزير الإقتصاد راوول نعمة المكتوبة، حث القضاء على اعتبار إنفجار المرفأ حادثاً، لم تحصل بشكل عرضي. بل هي تعكس رغبات الطبقة الحاكمة الدفينة بطمس الحقيقة، ومحاولة “ترميم” الإقتصاد المنهار على أنقاض مبدأ “فرّق تسد”. لكن هل يمكن فعلياً لأي بلد بناء اقتصاده قبل استرجاع مقومات سيادته التي تحفظ أمنه؟
بغض النظر عن حُسن نية الوزير بتعجيل حصول المتضررين على تعويضات بمئات ملايين الدولارات (1.2 مليار دولار)، أو سوئها بمحاولة شق الرأي العام، واستمالة جزء كبير من أصحاب الحقوق إلى السير بفرضية الحادث، فان ما جرى يعكس اهتراء الدولة ومؤسساتها. والنتيجة في كلتا الحالتين ستكون واحدة: ترتيب “دين موقوف” في ذمة بعض المُؤمّنين، وتعريض البقية لإمكانية ضياع حقوقهم في حال إفلاس شركات التأمين التي يتعاملون معها.
الأخطار لا تقف عند هذا الحد، بل تتعداها إلى غياب الرؤية المستقبلية المرتبطة بوضع البلد “الواقف” على “كف عفريت”. فاحتمال ملاقاة قطاع التأمين مصير البنوك كبير. وانعدام قدرة الشركات على المتابعة بالتسعيرة القديمة، وعجز المواطنين عن دفع الأقساط الجديدة يهددان باستمرارية الشركات، وبالتالي ضياع حقوق المتضررين إلى الأبد.
“تجنّب هذا الخطأ القاتل وحماية المتضررين بشكل خاص، ممكنان”، برأي المحامي كريم ضاهر، و”هما يتطلبان إتفاقاً جماعياً بين شركات الضمان المحلية ومعيدي التأمين برعاية “لجنة مراقبة هيئات الضمان” في وزارة الإقتصاد. فيصار إلى الإتفاق على وضع مبالغ التعويضات المترتبة على معيدي التأمين بحق المتضررين من الإنفجار في حساب إئتماني fiduciary account، وتحديد المستفيدين منه بالأسماء والمعطيات. هذا المبلغ لا يتحرر قبل صدور الحكم القضائي وتحديد طبيعة الإنفجار. عندها، إذا كان الإنفجار حادثاً غير مفتعل تدفع المبالغ لأصحاب الحقوق. وفي حال ثبت أنه عمل عسكري أو إرهابي مفتعل تستعيد شركات إعادة التأمين أموالها.
إذاً، الحلول التي تحفظ حقوق المتضررين موجودة. وهي لا تتطلب إلا “حك الرأس” بعيداً عن التسرع والتهور وإظهار، عن قصد أو غير قصد، أن ثمن جريمة المرفأ 1.2 مليار دولار. فالإقتصاد لا يبنى على طمس الجريمة ولا يقوم على إخفاء الحقيقة ولا ينهض على أنقاض العدالة، إنما على مشروع وطني متكامل بعيداً من ذهنية التسويات.