…حتى “المونة” البسيطة أصبحت غالية!

لا تقتصر أهمية المونة اللبنانية بأنواعها المتعددة على أنها إحدى ركائز الغذاء للعائلات، ورمز الموائد والأطباق اللبنانية، بل لأنها أيضاً الملاذ لذوي الدخل المحدود، لإعداد طبخة من البيت حين تتبخر الرواتب. وهي تُشكل سلسلة إقتصادية مترابطة يستفيد منها المزارعون والعاملون في تحضير أصناف المونة، والتجار ومنظمو المعارض الغذائية ومنتجو المواد الاولية، وأيضاً العائلات الميسورة التي لا تريد تكبد عناء تحضيرها شخصياً فتشتريها إما من المصدر مباشرة أو من التجار. ولأنها باب للتنمية الاجتماعية والريفية وتمكين المرأة إقتصادياً، دعمت المنظمات الدولية وهيئات المجتمع المدني على مدار العقود السابقة ولا تزال ركيزتين أساسيتين لهذه «الحرفة اليدوية» وهما النساء اللواتي يعملن في تحضير المونة، والمزارعون.

محاولات للخروج من براثن الازمة

لكن هذه «السلسلة» مصابة ببطء في عجلة دورانها بسبب الإنهيار الاقتصادي، ولا تزال تكافح للإستمرار إستناداً إلى اعتماد بعض منتجي المونة على التصدير، وعلى مجيء المغتربين مما يضيف حيوية إلى سوق البيع بالتجزئة.

النساء عصب التعاونيات الزراعية

التعاونيات الزراعية مكوّنة في معظمها من سيدات ريفيات إنضوين في الغالب تحت مظلة «تعاونيات زراعية» لقوننة عملهن، ولكي يتمكنّ من الحصول على الدعم من الجمعيات الدولية والمحلية ووزارة الزراعة. ويكافحن منذ سنوات لكي يؤمنّ مدخولاً يكون «البحصة التي تسند الخابية». بمعنى أنهن يستفدن من الأصناف التي يتم إعدادها للإستهلاك الخاص، وبيع ما يحضّرنه في المعارض وللتجار والزبائن المنفردين مما يحقق لهن نوعاً من الاستقلالية المادية. وبالرغم من تمكنهن من تجاوز الظروف العصيبة في السنوات الاولى لتأسيس هذه التعاونيات، إلا أنهن يكافحن حالياً لإجتياز ظروف لا تقل صعوبة بسبب الارتفاع الجنوني في سعر دولار السوق السوداء، مما انعكس سلباً على قدرتهن على تأمين المواد الاساسية والطاقة.

الصمود في عاصفة الازمة إنجاز

تقول رئيسة تعاونية «زادت الخيرات- بدنايل» الدكتورة راغدة المصري لـ»نداء الوطن»: «الازمة مرت علينا كباقي الشعب اللبناني ومن يبقى صامداً فقد حقق إنجازاً وهذا هو حالنا. فبعد الانهيار وأزمة كورونا طوّرنا عملنا بتقطير نباتات عطرية وطبية لتصبح 12 نوعاً، وعملنا على إعداد خلطة زهورات مجففة وإستخراج زيوت من الاعشاب لإستعمالها خلال الجائحة لزيادة المناعة. وهذا ما لاقى إقبالاً في السوق وخلق تعاوناً بيننا وبين مزارعين في قرى جرود الهرمل وشمسطار، لأننا نعمد إلى شراء الاعشاب اللازمة منهم خصوصاً أننا قمنا أيضاً بإعداد عجينة النحل التي يستعملها النحالون لتغذية قفرانهم في أيام الشتاء».

تشير المصري إلى ان «التعاونية تلقت مساعدة خلال الازمة من المغتربين وهذا ما شكل «فرجاً» مكننا من شراء المواد الاولية. وبعد إنفجار بيروت طلب العديد من جمعيات المجتمع المدني إعداد مونة لتقديمها لمتضرري إنفجار مرفأ بيروت مما نشّط عملنا وخلق حركة إقتصادية شملت المزارعين الذين تتعاون معهم التعاونية»، مشددة على «أن أزمة الدولار تؤثر في شراء المواد الاولية وهامش الربح. ولذلك نحاول الموازنة قدر الامكان بين الكلفة والربح كي نتمكن من الصمود وتعزيز الانتاج الزراعي والوطني وتحقيق إستقلالية المرأة وتمكينها إقتصادياً».

المشكلة في غياب رأس المال التشغيلي

تختصر المصري «المشاكل التي تواجه التعاونية بعدم وجود رأس مال تشغيلي ومقر دائم، مشيرة إلى أنه «حالياً يعملن في مقر مستأجر لعشر سنوات لكن الصعوبات في ما يتعلق برأس المال التشغيلي مستمرة. وكنا نعتمد على المساعدات التي تأتينا من جهات رسمية ودولية. وحالياً التعاون في ما بيننا مستمر لزيادة خبرتنا التقنية والتشغيلية وتطوير أنفسنا في كيفية إعداد خطط التسويق».

تضيف: «في بداية عملنا في 2005 كان التركيز على المقطرات والمربيات، كنا في البداية مجموعة نساء، 11 إمرأة من بدنايل وجوارها. واليوم تضاعف العدد ثلاث مرات، مشيرة إلى أنه «في 2011 نالت التعاونية مساعدة من وزارتي الزراعة والصناعة عبارة عن معمل صغير للتقطير. وتلقت السيدات عدة دورات من وزارة الزراعة وغرفة التجارة والزراعة ومنظمة Unido، في ما يتعلق بسلامة الغذاء وتقنية صناعة الاغذية لزيادة جودتها وإنتاجها بطريقة أفضل بالاضافة إلى تقديم بعض المعدات».

المونة باب الاستقلالية المادية

في جنوب لبنان ثمة تجربة مشرقة أيضاً لتحضير المونة من خلال تعاونية «مواسم الضيعة-دير قانون رأس العين» إذ تشرح رئيسة التعاونية دعد إسماعيل لـ»نداء الوطن» أن «التعاونية تضم 28 سيدة (البداية كانت مع 12 فقط) يردن الاستمرار بالعمل بالرغم من تراجع المدخول بفعل الازمة، لأنهن مصرات على تحقيق بعض الاستقلالية المادية وإنتاج مواد صحية لإستعمالها في إطعام عائلاتهن وإستغلال وقتهن بإعداد مونة يبرعن في تحضيرها (مربيات ومقطرات والخبز التراثي… نحو 50 منتجاً )»، لافتة إلى أن «عملنا مستمر ولكن بوتيرة أقل من النصف بسبب غلاء اسعار المواد الاولية وإنقطاع الكهرباء. علماً أننا حاولنا منذ البداية أن تكون لنا بصمة خاصة في السوق من خلال إعادة تسويق خبز تراثي خاص بضيعتنا لا يعرفه إلا كبار السن وإسمه «ملة السميد». وميزته أنه يبقى صالحاً للأكل فترة طويلة، كان أجدادنا يحضّرونه قبل الذهاب إلى رحلات الحج أو أي رحلات طويلة».

الحاجة إلى مواد أولية

في المقابل تتشارك إسماعيل مع باقي الجمعيات لجهة العوائق التي تعترض تقدمهن حالياً وهي عدم وجود مركز دائم للتعاونية، إذ أن مركز التعاونية مستأجر من وقف البلدة. وقد تم منحهن 7 سنوات للإقامة مجاناً بالاضافة إلى أرض لزراعة المواد الاولية. لكن التعاونية تدفع الايجار حالياً وهذا ما يزيد من الاعباء مع إنقطاع الكهرباء الدائم». وتشير أيضاً إلى «أنها من التعاونيات التي تتلقى مساعدات من منظمات دولية، greene peace قدمت تجهيزات الطاقة الشمسية في 2017 (يتم إستعمالها حالياً لفلاتر المياه)، وundp قدمت مولداً كهربائياً (لا يتم إستعماله بسبب غلاء المحروقات) وسيارة لنقل الانتاج وفرناً كاملاً لتحضير الخبز، كما قدمت جمعية Active معدات لتقطير ماء الورد والزهر وسائر الاعشاب».

وتلفت إلى أن «كل الجهات المانحة تتجه حالياً إلى تقديم تدريبات. وهذا ما لا تحتاجه الكثير من التعاونيات، وما يحتاجون إليه فعلاً هو مساعدات لتأمين مواد أولية لتحضير المونة وأدوات عينية لإستعمالها في الزراعة».

التصدير باب للصمود

في بلدة زوطر الشرقية (قضاء النبطية) ثمة حكاية أخرى لإنتاج المونة وتحديداً «الزعتر» أو ترويقة الفقير، والتي بدأها المزارع محمد نعمة منذ 22 عاماً بزراعة 600 متر حول منزله، وتحول اليوم إلى مقصد لشراء هذا الصنف سواء في لبنان أو دول المهجر بفضل مثابرته والمساعدات التي تلقاها من العديد من الجمعيات الدولية. ليصبح مساحة ما زرعه من زعتر هذا العام 200 دونم وبلغ إنتاجه من الجاهز للتصدير العام الماضي 50 طناً.

يشرح نعمة أن «ما مكنه من الصمود هو التصدير إلى الخارج ( الولايات المتحدة وإنكلترا والدول العربية) مما أمّن له الدولار لتغطية تكاليفه»، موضحاً أنه منذ «بداية الازمة لم ترتفع كلفة زراعة الزعتر وتجهيزه للمستهلك أكثر من 15 و20 بالمئة كل عام (محروقات / شتول توضيب الارض ومبيدات وأسمدة ويد عاملة)»، لكن «منذ رفع الدعم عن المحروقات صيف العام الماضي إرتفعت الكلفة بشكل جنوني، مما رفع السعر على المستهلك. ففي 2019 كان سعر كيلو الزعتر الجاهز 30 ألف ليرة، اليوم يتراوح سعره بين 250 ألفاً (الجملة) و300 ألف لسعر المفرق، وتبلغ اجرة اليد العاملة السورية 7 دولارات بعد ان كانت 25 ألف ليرة في اليوم».

إضراب القطاع العام يضر بالمزارعين

يشدد نعمة على أن «العوائق التي تزيد من صعوبة الوضع لدى المزارعين ومنتجي المونة هو الاضراب الحاصل في القطاع العام مما أوقف التصدير. بالاضافة إلى عدم التنسيق بين وزارات الاقتصاد والزراعة والجمارك في القرارات المتخذة بالنسبة للتصدير»، شارحاً أن «إستهلاك السوق المحلي تراجع كثيراً والناس باتت تشتري الزعتر بالوقية والنصف كيلو بينما سابقاً كان الشراء بالكيلوغرامات».

ويختم: «باتت عائلات كثيرة تتجنب تحضير المناقيش في الافران بسبب إرتفاع سعر العجينة الذي يتراوح اليوم بين 7 و10 آلاف ليرة (من دون إحتساب كلفة الزعتر) مما بات يشكل عبئاً على ميزانيات معظم العائلات الفقيرة، ولم تعد منقوشة و»عروسة» الزعتر أكل الفقير».

على ضفة المواكبة الرسمية، تشرح مدير عام التعاونيات في وزارة الزراعة غلوريا أبو زيد أن «أغلب التعاونيات الزراعية والصناعية هي تعاونيات نسائية، ومنذ بداية الازمة لم يكن هناك موازنة لدعم هذه التعاونيات مادياً، ولكننا نساندها عبر جمعيات وهيئات دولية، لأن كل البرامج والتدريبات التي تنفذ من قبل هذه الهيئات للتعاونيات تمر عبر مديريتنا، لأنها تتولى مراقبة هذه التعاونيات وتتابع مدى فعاليتها وتُحل هذه التعاونيات في حال ثبت عدم نشاطها». تضيف: «هذه التعاونيات تتلقى مساعدات من قبل منظمة الفاو وجمعية البابا يوحنا بولس الثاني الايطالية وحكومة كندا، كون قطاع التعاونيات يستقطب الجهات المانحة»، معتبرة أن «هذه التعاونيات هي في صلب التنمية الريفية وتمكين المرأة. ونحن نعمل مع منظمة الاغذية والزراعة الفاو لمساعدة (ضمن برنامج «رائدات الريف») نحو 250 مجموعة منها 150 تعاونية زراعية. وشملت هذه المساعدات منحاً مادية وتدريبات واسعة تتعلق في كيفية إنشاء تعاونية ووضع أسس هيكلها القانوني والمساواة بين الرجل والمرأة. بالاضافة إلى تدريبات حول تصنيع المنتج وسلامة الغذاء وهذه التدريبات لم تتوقف خلال جائحة كورونا». مشيرة إلى ان «العدد الاجمالي للتعاونيات نحو 1200 تعاونية تمّ حلّ 360 منها بعد ثبوت عدم نشاطها».

محاولات لخفض الكلفة

في «بيت الزراعة» في إنطلياس يشرح الخبير الزراعي المهندس مروان أبوحيدر (صاحب الشركة) الاسلوب الذي إتبعه للتغلب على الصعوبات، فيقول: «واجهنا مشكلة كلفة النقل وعدم قدرة المزارعين وربات البيوت اللواتي يحضرن المونة على إيصال منتجاتهم إلينا، مما دفعنا إلى تولي هذه المهمة بأنفسنا»، لافتاً إلى أنه من «الاساليب الاخرى التي يتم إعتمادها لتوفير الكلفة و زيادة الارباح هي شراء المراطبين المستعملة من زبائننا ونقدمها لربات البيوت اللواتي نتعامل معهن ليتولين تغيير الاغطية والتعقيم».

يضيف: «نحن وسيط بين المزارع والسيدات اللواتي يعملن في المونة والمستهلك، ونتعاون مع مئات الاشخاص، السيدات بحسب مواسم المونة، ومع المزارعين الذين يشترون من «بيت الزراعة» الشتول والاسمدة، إذ نقوم لاحقاً بعرض منتجاتهم وبيعها بحسب السعر الذي يحدده المزارع».

ويختم: «نحضر لتجهيز مبنى يضم مطابخ تؤمن كل المستلزمات لتحضير المونة ونستقبل السيدات الراغبات في إستعمالها على أن تأخذ الشركة نسبة من الانتاج (لتأمين البضائع اللازمة لزبائنها) على أن يحافظ الطرفان على أرباحهما و حقوقهما».

 

مصدرنداء الوطن - باسمة عطوي
المادة السابقةموظّفو الإدارة العامّة مستمرّون في الإضراب.. واعتصام الثلثاء
المقالة القادمةالمصارف على قلب رجل واحد: سليم صفير أو رياض سلامة؟!