تبدو فرص نجاح سياسة فرض سقف سعري على صادرات النفط الروسي المنقولة بحراً، في تحقيق هدفها المتمثّل في تقليص موارد الخزينة الروسية، ضئيلة للغاية، وأقرب إلى الرمزية منها إلى الواقع، وذلك لعدّة عوامل سياسية وموضوعية متداخلة. لكنها، كما سلسلة العقوبات الغربية المتلاحقة ضدّ موسكو، قد تنعكس سلباً على الغرب نفسه على المديَين المتوسّط والبعيد، وقد تسهم، إلى جانب أسباب أخرى، في تفكيك هيمنته على صناعة النفط العالمية، وتكريس توجّه، بدأ منذ بعض الوقت، لإنشاء نظامٍ موازٍ بديل، لا يمرّ في المركز الغربي، ولا يحتاج إلى أساطيله، ولا يتبع إجراءات شحنه، ولا يتداول بعملته
في واحد من أقوى التدخّلات الحكومية في سوق النفط العالمية، شرع الاتحاد الأوروبي، مع بداية هذا الأسبوع، في تنفيذ حظر على واردات النفط المنقولة بحراً من روسيا. كما انضمّت دوله الـ27 إلى الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وأستراليا، في منع شركاتها من نقل النفط الروسي إلى أيّ مكان في العالم، أو تقديم خدمات لموسكو مِن مِثل التأمين، ما لم تَبِع الأخيرة نفطها دون سقف سعري حُدّد الآن عند مستوى 60 دولاراً للبرميل. وتهدف هذه الإجراءات العقابية إلى تقليص عوائد الخزينة الروسية، والحدّ من قدرتها على تمويل المجهود الحربي في أوكرانيا، مع الحفاظ في الوقت نفسه على مستوى تدفّق النفط لمنع نقص حادّ في الكمّيات المعروضة، قد يتسبّب بارتفاعات قياسية في الأسعار العالمية. ويمثّل النفط والغاز 42 في المائة من إيرادات روسيا هذا العام، أي نحو 191 مليار دولار وفق أرقام وزارة المالية الروسية.
ويشكّل تزامن سريان الصوم الأوروبي عن النفط الروسي، مع حظر الخدمات المتعلّقة بالشحن ربطاً بسقف سعري، تدخّلاً سياسياً منسّقاً غير مسبوق للتحكّم بتجارة النفط العالمية. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها يخاطرون، من خلال محاولة استبعاد أحد أهمّ المنتجين العالميين للطاقة، بتكريس تصدّع الهيمنة التاريخية للغرب على سوق الذهب الأسود، والتي طالما كانت أحد أهمّ مرتكزات النظام العالمي الذي تأسّس بعد الحرب العالمية الثانية، وسرّ مِنعة الدولار الأميركي. ويعتمد مستقبل هذه الهيمنة، الآن، على كيفيّة تعامل روسيا مع هذا التصعيد الأحدث في الحرب الاقتصادية، وعلى مدى استعداد دول الجنوب للمشاركة في تنفيذ إجراءاته، لا سيّما كبار المستهلكين، مِن مِثل الصين والهند وتركيا، الذين تجنّبوا حتى اليوم الانخراط في تحالف غربي عريض معادٍ لموسكو تقوده الولايات المتحدة.
الموقف الروسي جاء سريعاً وصارماً، إذ أكد نائب رئيس الوزراء الروسي، ألكسندر نوفاك، أن “موسكو لن تُصدّر النفط الذي يخضع لأيّ سقف سعري يفرضه الغرب حتى لو اضطررنا إلى خفض الإنتاج إلى حدّ ما”. وكان الكرملين أعلن، منذ أسابيع عدّة، أنه لن يبيع النفط للدول التي تمتثل لسقف الأسعار الأميركي، مهما كلّف الأمر. ونقلت الصحف عن مختصّين قولهم إن روسيا جمعت بالفعل، بهدوء، أسطولاً يضمّ أكثر من 100 ناقلة قديمة من خلال عمليات شراء مباشر أو عبر وسطاء لاستخدامها في نقل نفطها، من دون الحاجة إلى الحصول على تأمين من شركات غربية، ومنها سفن تستخدمها إيران وفنزويلا، الخاضعتان بدورهما لحظر نفطي غربي منذ سنوات، لنقل نفطهما. وقد تكون روسيا أنفقت، وفق خبراء، أكثر من 16 مليار دولار من أجل امتلاك “أسطول الظلّ” هذا – وفق تسمية الصحافة الغربية -، الذي سيكون من شأنه التقليل إلى حدّ كبير من فاعلية الإجراءات الغربية. ومع ذلك، فإن كلّ شيء يعتمد بشكل كبير على كيفية تعامل دول الجنوب مع تلك الإجراءات.
وتَحوّل الجزء الأكبر من الصادرات النفطية الروسية، بالفعل، ومنذ أشهر عدّة، من أسواقها التقليدية الأوروبية إلى الصين والهند بشكل أساسي، فيما انتقل الأوروبيون تدريجاً إلى مورّدين من الولايات المتحدة أو حلفائها في الخليج العربي. وحافظت تلك العملية، بشكل كبير، على حجم العوائد الروسية من النفط، فيما تضاعفت تكلفة المحروقات على المستهلكين الغربيين، وقادت – من ضمن عوامل أخرى – إلى تضخّم وركود اقتصادي لم تشهدهما القارّة القديمة منذ الحرب العالمية الثانية. وليس في الأفق الآن ما يشير إلى أن الصين في وارد التخلّي عن حليفها الروسي، كما أن الهند رفضت بعناد الالتزام بالعقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا. وعليه، فإن جلّ ما يطمح إليه الأميركيون هو أن يستخدم زبائن موسكو الحاليون الإجراءات الجديدة للتفاوض معها على أسعار أقلّ خلال الفترة المقبلة.
وأعلنت اليابان، من جهتها، أنها ستلتزم بالسقف السعري المعلَن، لكنها قالت إنها ستستثني النفط الذي يصلها من آبار جزر سخالين، وهو على أيّ حال الجزء الأكبر من مشتريات طوكيو من النفط الروسي. كما وردت تقارير من أنقرة تقول بأن شركات التأمين التركية التزمت بالسقف المذكور، وهي تطالب بفواتير شراء دون 60 دولاراً للبرميل، لكن الحكومة التركية لم تعلّق رسمياً بعد. وتعدّ تركيا – الدولة العضو في “حلف شمال الأطلسي” – من كبار مشتري النفط الروسي، ومن غير المستبعد أن تلجأ إلى إجراءات تتحايل من خلالها على المتطلّبات الغربية، علماً أنه لا توجد آليات كافية للتعامل مع أيّ محاولات تحايل مِن قَبيل تقديم فواتير شكلية أو وثائق مزوّرة لشركات التأمين.
بناءً على ما تَقدّم، تبدو حظوظ نجاح السقف السعري في التأثير على المبيعات الروسية، ضئيلة بالفعل، لا سيما وأن السعر المُقرَّر حالياً، والبالغ 60 دولاراً، قريب من السعر الذي كان يتمّ به تداول النفط الروسي. ومنذ فرض عقوبات غربية على روسيا، تبيع موسكو نفطها بخصومات معتبَرة للزبائن الكبار، لكن مستوى عائداتها من هذه السلعة الحيوية تَضاعف منذ بدء الحرب في أوكرانيا بفضل ارتفاع الأسعار. كما أن سعر الـ60 دولاراً أقلّ من سعر مزيج خام برنت القياسي بخمسة دولارات فقط للبرميل. ومن هنا، لم تُخف أوكرانيا خيبة أملها، وطالبت بأن يُفرض سقف منخفض بشكل ملموس بحيث تتضرّر قدرة “نظام بوتين” على شنّ الحرب. وتريد كييف أن يكون السقف بحدود 30 دولاراً، فيما حاولت بولندا الدّفع في اتّجاه مستوى الـ50 دولاراً، لكن الدول الكبرى تدرك أن ذلك سيضعف من محاولاتها استقطاب دول الجنوب للمشاركة في فرض السقف على النفط الروسي الرخيص نسبياً، وستنتهي في حال امتناع الروس عن التصدير، إلى الشراء من السعوديين بأسعار أعلى.
من جانبها، أكدت مجموعة “أوبك بلس”، التي تقودها السعودية وروسيا، بعد اجتماع لها عبر الإنترنت عُقد قبل يوم واحد من سريان الحظر الأوروبي وفرض السقف السعري، استعدادها لاتّخاذ إجراءات، وصفتها بالفورية، لتحقيق الاستقرار في أسواق النفط العالمية عند الحاجة، لكنها قالت إنها لن تستبق الأحداث، ولن تغيّر من مستويات الإنتاج الحالية. كما أعلنت الولايات المتحدة أنها بصدد رفع الحظر على استيراد النفط الفنزويلي، مانِحةً شركة “شيفرون” ترخيصاً لاستئناف الإنتاج بالتعاون مع حكومة كاراكاس، ومؤكدة أنها ستفرج سريعاً عن أرصدة فنزويلية محتجَزة لديها. على أن هذه الخطوات، وإن شكلّت تحوّلاً نوعياً في السياسة الأميركية تجاه نظام نيكولاس مادورو، إلّا أنها وفق أغلب التقديرات لن تؤثر في وضع أسعار النفط العالمية في أيّ وقت قريب، فيما قد تحسّن فقط من قدرة السوق المحلية في الولايات المتحدة على توفير إمدادات إضافية من المحروقات في أجواء عدم الاستقرار التي تلفّ الأسواق.
ويعكس هذا التخبّط الغربي المعضلة السياسية التي تواجهها الحكومات على جانبَي شمال المحيط الأطلسي، بعدما وجدت أن حربها الاقتصادية على موسكو لا تقلّل على نحو كافٍ من إيرادات روسيا، مقابل التكلفة المضاعفة التي تتحمّلها الشعوب الغربية، وأصبحت تهدّد مستوى رفاه اعتادت عليه لعقود طويلة. وتسود خشية حقيقية لدى متّخذ القرار الغربي من انعكاسات تزامن مقاطعة أوروبا للنفط الروسي بشكل كامل، مع فرض السقف السعري، على وضع إمدادات النفط العالمية وأسعار السوق على المدى القصير. كما أن نجاح تلك السياسات على المدى الطويل قد يكرّس عملية بدأت بالفعل، لاستحداث نظام تبادل موازٍ للنظام العالمي الحالي، يعتمد على التجارة المباشرة (جنوب – جنوب)، وتنعقد فيه التداولات بعملات غير الدولار الأميركي، وتُنقل التوريدات عبر أساطيل لا تتبع إجراءات الشحن الغربية، الأمر الذي سيكون بمجمله بمثابة كابوس مفزع للنخب الرأسمالية.