مرحلة غير سارّة ينتظر لبنان دخولها الأسبوع المقبل، بعد انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. الكثير من التكهّنات لا توضِح مصيرها الجلسات المتتالية للسياسيين مع نواب الحاكم. ولا يبدو أن أيّاً من مجلس الوزراء أو مجلس النواب يمتلك مبادرة للتخفيف من حدّة الانعكاسات المرتقبة على الوضع الاقتصادي، وسعر صرف الدولار في السوق، ومصير منصة صيرفة.
ولمزيد من “الكآبة”، يحمل مشروع قانون موازنة العام 2023 إجازة للحكومة بإصدار سندات خزينة بالليرة، لتمويل العجز المقدَّر في تنفيذ الموازنة. وهذه الإجازة تعني تشريع طباعة الليرة أو استمرار مدّ اليد إلى الاحتياطي الذي يمثّل أموال المودعين.
مصرف لبنان يموِّل الدولة
يعتبر رياض سلامة أن لا مسؤولية على المصرف المركزي في تبديد ما صُرِفَ لتمويل الدولة، إذ جاء ذلك بطلب من السلطة السياسية وما كان على المركزي إلاّ الاستجابة. ولا يبدو أن مسار اللجوء إلى المصرف المركزي سيتغيَّر، على الأقل في الشكل، لأن السلطة السياسية وضعت التشريع الذي يغطّي طلب المال من المركزي، وذلك ضمن موازنة العام 2023 حين تُقَر في مجلس النواب. وتحت عنوان “الإجازة بالاقتراض”، أتت المادة الخامسة في مشروع الموازنة لتجيز للحكومة “إصدار سندات خزينة بالعملة اللبنانية لآجال قصيرة ومتوسطة وطويلة، وذلك بقرارات تصدر عن وزير المالية”. وذلك في إطار “تمويل استحقاقات أصل الديون وضمن حدود العجز المقدَّر في تنفيذ الموازنة وفي إنفاق الاعتمادات المدوَّرة إلى العام 2023 والاعتمادات الإضافية”.
التوجُّه نحو المصرف المركزي ليس بجديد، فهو المسلك الذي تمتهنه السلطة السياسية والمَنفَذ الذي تستسهل اللجوء إليه لتأمين الاعتمادات المالية المطلوبة. ولا يستبعد مدير وحدة الدراسات في بنك بيبلوس نسيب غبريل، أن يشتري مصرف لبنان تلك السندات لأن “المركزي هو الذي يموِّل الدولة عادة”. ونحّى غبريل جانباً خيار استكتاب المصارف في تلك السندات، ففي حديث لـ”المدن”، رأى أن ذلك الاستكتاب “يحتاج إلى سيولة كبيرة بالليرة، والمصارف لا تملك هذه السيولة”.
ومع ذلك، لا يحبِّذ غبريل تمويل المركزي لاحتياجات الدولة، لأن “على السلطة التنفيذية إيجاد حلّ من إيراداتها، فتمويل الدولة يجب أن يكون من الدولة نفسها. والأولوية بالموازنة هي زيادة الإيرادات لتمويل الدولة”.
ويبقى أن موافقة المركزي على شراء سندات بالليرة، تعني ارتفاع مستوى حاجته للعملة اللبنانية، مما قد يدفعه لطباعة كميات إضافية منها وزيادة حجم الكتلة النقدية التي بدورها تدعم زيادة التضخُّم. كما أن المركزي بتلك الحالة، سيحمل سندات خاسرة لأن قيمة الليرة تزداد تدهوراً. أما المستثمرين، فلن يقتربوا من سندات بعملة منهارة لأن مخاطرها مرتفعة جداً، وأُفق إجراء الإصلاحات وبدء ارتفاع سعر صرف الليرة على إثرها، شبه منعدم.
الاستدانة من المركزي
يحمل المركزي مسؤولية الاتجاه سريعاً نحوه للحصول على الأموال، لأنه “انغمس في التمويل سابقاً، في حين لم يكن مجبراً على ذلك”، وفق ما يقوله الاقتصادي روي بدارو الذي يلفت النظر في حديث لـ”المدن”، إلى أن هذا التمويل هو من مسؤولية الدولة، وعلى وزارة المالية تجميع إيراداتها وتأمين تمويل متوجّباتها.
انطلاقاً من عدم إلزامية المركزي في تأمين التمويل، يقترح بدارو “استدانة الدولة من مصرف لبنان ما تحتاجه، وتتعهَّد بردّ الدين خلال سنة ونصف السنة، مع تقديم ضمانات للمركزي، إحداها احتياطي الذهب”. ويوضح بدارو أن هذه الضمانة “لا تعني أن تتخلّى الدولة عن الذهب أو أن يبيعه مصرف لبنان، بل هو للتأكيد على ضرورة إعادة المبلغ المستدان”.
عدم رغبة السلطة السياسية في دخول متاهة الاستدانة بضمانة الذهب، يفتح الطريق أمام أبواب أخرى أقل حظاً، وهي استكتاب “كل مَن لديهم استحقاقات بالليرة اللبنانية على الدولة، سواء من الناس أو المؤسسات وحتى المصارف، وبهذه الطريقة تجمع الدولة الليرات ولا تضطر لطباعة كميات إضافية”. ويستبعد بدارو لجوء المركزي لشراء السندات لأن “رياض سلامة سيغادر منصبه، ونواب الحاكم لن يوافقوا على الاستكتاب. ولذلك يبقى خيار الاستدانة من المركزي هو الأقرب”.
تحتاج الدولة إلى نحو 200 مليون دولار شهرياً لتمويل نفقاتها، من ضمنها بين 80 و90 مليون دولار للرواتب. وإذا لم تتأمَّن من طباعة الليرة، سيكون خيار اللجوء إلى الاحتياطي الإلزامي مطروحاً. وفي هذه الحالة، تؤكّد السلطة السياسية مرة جديدة أنها -عبر وزارة المالية- غير جدّية في البحث عن المصادر الصحيحة لتأمين التمويل، وأي من إيرادات الدولة. وهنا يشرح بدارو أن هذا الواقع “يعكس ما تتلقّاه السياسة النقدية نتيجة مصائب السياسة المالية”. فما لا تريد وزارة المالية تأمينه من إيرادات الدولة، تلقي بمسؤوليته على مصرف لبنان الذي يضطر إلى انتهاج سياسات نقدية تغطّي عجز السياسات المالية. ولا يعني ذلك تبرئة المصرف المركزي أو حاكمه من مسؤوليّته المستمرة عن الانغماس في اللعبة السياسية طيلة 30 عاماً، فلو أنّه امتنع عن التجاوُب مع قرارات السلطة السياسية، لكان قادراً على تحصين نفسه اليوم. لكن اتخاذه خياراً مغايراً، جعله جزءاً أساسياً من مشهد الأزمة التي ستتفاقم في حال اتّخذ المركزي خيار طباعة الليرة لتمويل الاستكتاب بسندات خزينة، أو في حال استعمل أموال المودعين.