في امتحان مادة الاقتصاد لطلاب المعهد الوطني للإدارة العامة ( التل ــــ ريف دمشق 2017 )، ورد السؤال التالي: من هو أشهر حاكم مصرف مركزي؟ كانت آلية الإجابة اختياراً من متعدد. بدون أي تردد، اختار الجميع رياض سلامة. وفي نقاشهم، اعتبر الطلاب أن هذا السؤال كان من نوع الأسئلة المُساعِدة، فشهرة سلامة كانت قد خرجت من لبنان وتجاوزته كـ«أفضل حاكم مصرف مركزي في الشرق الأوسط»، بل إن صيته ذاع في المنطقة كأفضل حاكم حافظ على استقرار العملة منذ توليه منصبه عام 1993.
في دمشق اليوم، ننظر إلى بيروت من خلف الحدود المغلقة، فنرى الجار اللبناني يقف على عتبة مرحلة خطرة عنوانها: التفاوض مع صندوق النقد الدولي، ونرى الحاكم رياض سلامة في «صف الأعداء»، وفقاً لتوصيف بعض الصحف اللبنانية. هذا التحول الاقتصادي في المشهد اللبناني، بين الأمس واليوم، أعاد إلى ذاكرة الطلاب السوريين ذاك السؤال في امتحان مادة الاقتصاد عن سلامة. ومع السؤال، نتذكّر أن رياض سلامة آخر، سوري هذه المرّة، سبق أن مرّ على سوريا ما بين عامي 2004 و2016، وهي الفترة التي تولّى فيها أديب ميالة منصب حاكم البنك المركزي السوري.
في 27 نيسان/أبريل الماضي، تناقلت المواقع السورية خبر عودة ميالة إلى الساحة الاقتصادية، كمدير استشارات مالية هذه المرّة، لا كصانع قرار ساهم في جزء من قراراته بدولرة العملة السورية في وقت مبكر جداً، كانت الليرة فيه لا تزال قوية، ولم تكن قد ظهرت عليها بعد أعراض الضعف مع تصاعد الأزمة السورية وتعقّدها، وازدياد العقوبات وآثار الحصار. حدث ذلك عندما أصدر ميالة قراراً سمح فيه ببيع المواطنين 10 آلاف دولار شهرياً، وبسبب هذا القرار غير المبرّر وقتها، أصبح الدولار يباع على البسطات «كما تباع البطاطا»! حيث لم يقتصر شراء الدولار على الناس العاديين والعاملين في المصارف، بل تجاوزه إلى اللبنانيين الذين دخلوا من لبنان إلى سوريا، لسحب مبلغ الـ10 آلاف دولار والخروج. ولم تجد التحذيرات التي أُطلقت عقب صدور القرار آذاناً صاغية، فاستمر البيع، والشيء المؤكد يومها أن الجميع لم يكتفوا بشراء المبلغ المحدد، بل تجاوزوه بكثير.
لاحق المركزي قراره المتسرّع بمعاقبة شركات الصرافة وإغلاق بعضها، محذراً كل من يتلاعب بقيمة الليرة، لكن وكما يقول المثل كان «اللي ضرب ضرب واللي هرب هرب»، فالمبالغ كانت قد خرجت ولم يعد بالإمكان إعادتها. بدأ المركزي بعدها بمطالبة المواطنين بإعادة مبالغ القطع الأجنبي المُشتراة، لكن الذين التزموا كانوا قليلين جداً مقارنة بالذين تهرّبوا. وأعلنت بعض شركات الصرافة عن نفاد القطع الأجنبي، إذ كان يفترض بها إعادة المبالغ للمركزي بموجب الاتفاق معه، لكن هذا لم يحصل أيضاً، على العكس من ذلك، تاجرت الشركات بالدولار وشاركها بذلك من يعرفون بتجّار الأزمات.
«ما زلت أذكر المرّة الأولى التي أرسل لنا فيها وزير المالية محمد الحسين، مذكرة يسألنا فيها عن رأي المصرف التجاري بموضوع بيع الـ10 آلاف دولار الذي ينوي ميالة طرحه»، تقول مسؤولة سابقة في التجاري السوري، وتضيف لـ«الأخبار»: «قمنا بإعداد مذكرة، قلنا له فيها بالحرف الواحد: ما الداعي لدولرة الاقتصاد السوري؟ ليرتنا قوية وليس هناك من حاجة (…) والمذكرة موثقة وما زالت موجودة في أرشيف التجاري السوري». وتشير المسؤولة إلى أن «الدولارات التي خرجت من المصرف المركزي بين 2010 – 2013، قد بلغت قرابة الملياري دولار»، وهي الفترة التي استمر خلالها بيع الدولار بموجب قرار ميّالة.
ما جمعه الأسد الأب بدّده قرار ميالة مبلغ الملياري دولار تقريباً، الذي خرج من خزينة المركزي بلا رجعة، كان قد جمعه رجال ثلاثة كان بيدهم القطع الأجنبي في سوريا على امتداد سنوات طويلة، هم: الرئيس حافظ الأسد، ووزير الاقتصاد محمد العمادي (وزير من عام 1985 إلى عام 2001)، ووزير المالية محمد المهايني (وزير من عام 1987 إلى عام 2002)، إلى جانب المصرف التجاري السوري. وفي هذا السياق، يتحدّث إلى «الأخبار» مدير سابق في البنك المركزي عن تلك الحقبة قائلاً: «عندما دخلت إلى البنك المركزي، كانت سوريا تمر بأخطر مراحلها وهي مرحلة الثمانينات التي فُرغت فيها خزينة الدولة من وجود حتى دولار واحد، وعجزت فيها الحكومة عن تأمين حتى علبة محارم وعجز التجاري السوري (المسؤول عن القطع الأجنبي في تلك الحقبة) عن تسديد ديونه. في تلك الفترة، وجّه الرئيس حافظ الأسد بإعادة بناء مخزون القطع الأجنبي من الصفر». وهذا ما حدث فعلاً، لكن الأمر لم يجرِ بهذه البساطة، بل تم عبر رحلة شاقة مضنية ما زال السوريون يتذكرونها بكثير من الألم والفرح، لأن نهايتها كانت انفراجاً اقتصادياً واحتياطياً نقدياً قيل إنه بلغ 20 مليار دولار مع دخول البلاد أزمتها في عام 2011. يتأسّف المدير السابق على ما جرى في ما بعد، إذ إن «كل ما بناه الأسد الأب، بدّده ميالة بقرار غير منطقي، وكان أحد الأسباب التي أوصلتنا إلى الوضع الذي نحن فيه اليوم».