من أبرز ما قاله البطريرك الماورني مار بشارة بطرس الراعي، في إعلانه أمس «مذكرة لبنان والحياد الناشط»، أن ”الحياد“ مفيد لاقتصاد لبنان، وأن هذا الحياد «عن صراعات المنطقة ما بين 1943 و1975 أدّى إلى الازدهار والبحبوحة، وزيادة النمو، وارتفاع نسبة دخل الفرد، وتراجع البطالة، حتى دعي لبنان سويسرا الشرق». وحدّد مصدر الحياد انطلاقاً من كونه نشأ في دستور لبنان «كسياسة دفاعية وخارجية»، وأمّن عدم خسارة أي من أراضيه خلافاً لما خسرته «البلدان المتاخمة لإسرائيل (سوريا والأردن ومصر) أجزاء من أراضيها». الخسارة وقعت لاحقاً بسبب «انحياز فئة من اللبنانيين إلى الفلسطينيين»، ما كانت نتيجته «احتلال اسرائيل لجنوب لبنان وسط سيطرة الفلسطينيين على الجزء الآخر»، وصولاً إلى دخول القوات السورية إلى لبنان ونشوء حزب الله. كل هذه الأحداث وقعت بسبب خروج لبنان عن سياسة الحياد، فأصبح لبنان في حالة تفكك وفشلت جميع التسويات… وما عاد ينقذ وحدته واستقلاله واستقراره سوى الحياد».
بمفهوم ”الحياد“ سيتولّد الاستقرار والثقة ويستفيد اقتصاد لبنان «في القدرات المصرفية والمالية والخبرة الطويلة في هذا المجال تجعل من لبنان خزنة الشرق الأوسط». فهو «مركز طبي للشرق الأوسط وله سلسلة فنادق تسهل لأهل المرضى مرافقتهم». وهو أيضاً مركز سياحي «للشرق الأوسط وللعالم»، و«مركز تعليم وتربية للشرق الأوسط»، و«يجتذب المنتشرين للعودة والاستثمار»، ويتحوّل بفضل كل ذلك إلى «محور الاتحاد المتوسطي والمكان الذي تتقاطع فيه مصالح جميع الأطراف».
ربما عن قصد استعمل البطريرك الراعي عبارة ”سويسرا الشرق“ لتوصيف حياد لبنان في الفترة الممتدة بين 1943 و1975. صحيح أنه في تلك الفترة ازدهر لبنان، «إنما لم تكن تلك العهود حيادية بالمعنى السويسري، ولم يكن ذلك الازدهار عادلاً»، بحسب الوزير السابق سمير المقدسي. أصلاً ليس هناك تعريف واضح ومحدّد لكلمة «حياد». فالرئيس كميل شمعون (1952 – 1958) كان يحاول جرّ لبنان إلى حلف بغداد، في مقابل محور عبد الناصر لاحقاً (عهد فؤاد شهاب 1958 – 1964) والدول العربية. كانت هناك محاولة لربط لبنان بالتوجه غرباً، مقابل اتجاه آخر عربي – مصري. وفي فترة الحرب، كان الصراع بين الفلسطينيين والحركة الوطنية مقابل محور آخر محوره الاساسي الكتائب، ومن أهم رموزه شمعون – الجميل. ويضاف إلى ذلك الفكر اليساري الذي كانت منتشراً في تلك الفترة. هذا ما كانت عليه الحال في سنوات الازدهار المذكورة حين كان هناك صراع حول التوجه السياسي الذي سيأخذه لبنان، وفق المقدسي. لذا، فإن ما قاله البطريرك «خارج عن الواقع والتاريخ. حتى فكرة الحياد غير واقعية»، كما يشير الوزير السابق جورج قرم. ولا يغفل قرم الإشارة إلى مجموعة مقالات كتبها ميشال شيحا (منظّر النموذج اللبناني) والتي أشار فيها صراحة، منبّهاً أكثر من 50 مرّة إلى «وجود عدو كياني للبنان اسمه اسرائيل. هناك تراث عند المسيحيين والموارنة بأن اسرائيل تمثل هذا العدو الكياني. مقالات شيحا جمعت في كتاب اسمه فلسطين».
لا تكمن المشكلة هنا فقط، بل في أن ذلك الازدهار الذي أشار إليه بوصفه ناتجاً عن ”الحياد“ كان ازدهاراً مشبوهاً ومقيتاً. ففي النتيجة، ورغم أنه كان هناك نمو اقتصادي وصناعات مزدهرة وبطالة أقل… إلا أنه بحسب المقدسي «لا ننسى أن الجنوب والبقاع والشمال وكثيراًَ من الطبقات الاجتماعية كانت مهمّشة. فوائد الازدهار في تلك المرحلة كانت محصورة بمنطقة معينة في بيروت وجبل لبنان، وكان هناك سوء توجه للدخل».
وتاريخ الازدهار الذي أشار إليه البطريرك، لا يتعلق أبداً بالمراحل التي تطوّر فيها النموذج الاقتصادي اللبناني. ففترة ما قبل الحرب لا تشبه فترة ما بعدها. «صار هناك نموذج ريعي أدّى إلى الكارثة المالية التي نعيشها اليوم»، وفق قرم.
أما النموذج الذي يسعى الراعي لإعادة إنتاجه اليوم، فهو ذلك الازدهار الذي كان سابقاً ثم «تعمّم في فترة الحرب وما بعدها على كل الطوائف بدلاً من أن يكون محصوراً ببعضها فقط. فمن كان خارج التركيبة أصبح جزءاً منها من دون أي تغييرات فعلية في جوهرها. عملياً، المتحكمون في النموذج هم الذين تغيّروا فقط»، كما يشير المقدسي.
مقدسي: بين 1943 و1975 لم يكن هناك حياد بالمعنى السويسري ولم يكن الازدهار عادلاً
هكذا استعيد مفهوم «الحياد». مهما أسبغوا عليه من صفات لاحقة، كأن يكون حياداً ناشطاً أو سلبياً أو إيجابياً، يبقى مفهوماً سياسياً ملتوياً بأهداف تكاد تكون واضحة. «فجوهر المشكلة المالية والاقتصادية مختلف عن الصراع القائم»، بحسب مدير المركز اللبناني للدراسات سامي عطا الله. فما يحصل هو غطاء لمشكلة اقتصادية – مالية هي عبارة عن كذبة تمارس منذ 30 سنة إلى اليوم. «هذا الغطاء سيكون لمصرف لبنان وللمصارف. كأن الحياد سيدفع الرساميل إلى التدفق نحو لبنان. هذه الرساميل لا تتدفق إلا بالمناخ الملائم للاستثمار. ليست دوافع الاستثمار في لبنان خارجية وليس مصدرها الحياد، فما سيحصل في ظل حياد كهذا هو تدفق نحو جهات معينة فقط»، يقول عطا الله. ويضيف أن الحياد أو عدمه هو وضع ثانوي في «اقتصاد غير منتج أصلاً. والحياد يعيدنا إلى النظام الاقتصادي الذي استفادت منه فئة الـ1%. هي عملية ترقيعية وترميمية للنظام. للأسف ليس البطريرك وحده من يسعى لذلك، وإن كان على ضفة مقابلة سياسياً».
ففي الواقع، ليس هناك مهارات مصرفية في لبنان بحسب ادعاء الراعي، بل هناك سماسرة، وليست هناك إعادة توزيع للثروة عبر نظام ضرائبي عادل، وليس هناك إلا التركّز في الثروة والدخل. عن أي حياد يتكلّمون؟ بالطبع يتكلّمون عن حياد السماسرة!