على مرّ أكثر من عقدين من الزمن، وتحديدًا منذ العام 2002، فشلت أي من الحكومات المتعاقبة في إقرار مرسوم مشروع قانون الموازنة ضمن المواعيد الدستوريّة. ربما لهذا السبب، نسي اللبنانيون كليًا وجود المادّة 86 من الدستور، التي تعطي مجلس الوزراء صلاحيّة إصدار الموازنة بموجب مرسوم، أي من دون الحاجة للتصويت على الموازنة بقانون في مجلس النوّاب. فالدستور حدّد شروط معيّنة لتطبيق هذه المادّة، ومنها أن تكون الموازنة قد أحيلت إلى مجلس النوّاب قبل 15 يوم من المهلة الدستوريّة المحددة لذلك، أي عند بدء العقد التشريعي في تشرين الأوّل. ومع مخالفة المهل الدستوريّة طوال تلك السنوات، لم يكن بإمكان الحكومات المتعاقبة تطبيق هذه المادّة.
سلق موازنة 2024 لتمريرها بمرسوم حكومي
على نحوٍ مفاجئ لم يفهمه أحد، ولأوّل مرّة منذ 21 سنة، سابقت الحكومة المهل الدستوريّة، وأقرّت بنجاح ونشاط لافتين موازنة العام 2024 قبل منتصف أيلول الماضي. بل وأكثر من ذلك، عملت الحكومة على مدى النصف الثاني من شهر أيلول على تحديث نص الموازنة، ودمجها بإجراءات موازنة 2023، ليُحال مرسوم مشروع قانون الموازنة ضمن المهل الدستوريّة يوم الخميس الماضي. هكذا، احتفى ميقاتي بإنجاز إقرار موازنة 2024 من دون تأخير، متناسيًا أنّ لبنان سينهي العام الحالي، 2023، من دون أي موازنة على الإطلاق، بسبب التأخر في إحالة هذه الموازنة إلى المجلس النيابي، وهو ما فرض اليوم دمج إجراءات موازنة 2023 الضريبيّة مع مشروع قانون موازنة 2024.
تبجّح ميقاتي إذًا بالعمل “البطولي” و”الإنجاز الكبير جدًا”، لمجرّد إقرار الموازنة في موعدها، رغم ركاكة هذه الموازنة قياسًا بالمطلوب الآن. لكن بعيدًا عن هذا التبجّح، كان من الواضح أن “سلق” الموازنة على عجل، وتمريرها كيفما اتفق، لم يكن مدفوعًا بحرص رئيس الحكومة على المهل الدستوريّة، ولا بالتزامه المثالي بالدستور.
فالاستعجال والتضحية بجديّة الموازنة، تقديسًا للمهل الدستوريّة، يصبح مضحكًا إذا ما تذكرنا تجربة حكومة ميقاتي مع الموازنات المتعاقبة: فمجلس النوّاب لم يقر أي موازنة خلال العام 2021، في حين أنّ موازنة العام الماضي 2022 لم تُقر في البرلمان إلا قبل ثلاثة أشهر من نهاية السنة نفسها، ما يعني أنّ الموازنة شرّعت الإنفاق الذي جرى بدل أن تكون أداة للتخطيط المالي المستقبلي. أمّا موازنة العام الحالي 2023، فلم تُدرس في مجلس النوّاب أساسًا.
الاستعجال وسلق الموازنة، وإحالتها إلى مجلس النوّاب قبل نهاية شهر أيلول، كان له هدف واحد: أن تمسك الحكومة بصلاحيّة تطبيق المادّة 86 من الدستور. أي بصورة أوضح، أن تتمكّن الحكومة من تمرير الإجراءات الضريبيّة المنصوص عنها في موازنة 2024، ومعها إجراءات موازنة 2023، بموجب مرسوم حكومي، في حال لم يلتئم مجلس النوّاب للموافقة على هذه الإجراءات.
بل وأكثر من ذلك، ثمّة ما يوحي بأن حكومة ميقاتي تدرك بالفعل التعقيدات التي تحول دون تمرير هذه الإجراءات الضريبيّة في هذه المرحلة بالذات، في مجلس النوّاب، بالنظر إلى ظروف الشغور الرئاسي واقتصار عمل البرلمان على “تشريع الضرورة”، وتهرّب الأحزاب السياسيّة من القرارات غير الشعبيّة، بل والمزايدات الشعبويّة التي تحكم عمل هذه الأحزاب، في هذه المرحلة بالذات.
ولهذا السبب يبدو أنّ ميقاتي فضّل أن يمتلك سلاح إقرار إجراءاته الضريبيّة بشخطة قلم لاحقًا، في حال تهرّب المجلس النيابي من مناقشة الموازنة وإقرارها. وبذلك سيضمن ميقاتي الواردات الحكوميّة، من دون التورّط في سجالات البرلمان المضنية.
تفاصيل المهل الدستوريّة وحسابات ميقاتي
من ينظر إلى تفاصيل المهل الدستوريّة، يلاحظ بسهولة أنّ هدف حكومة ميقاتي لم يقتصر على الالتزام بالمهلة الدستوريّة لإرسال الموازنة إلى مجلس النوّاب، بل استهدفت الحكومة الإلتزام بالمهل التي تخوّلها استعمال المادّة 86 من الدستور لاحقًا، أي المادّة التي تسمح للحكومة بإصدار الموازنة بمرسوم حكومة، من دون انتظار موافقة المجلس. وقراءة مواد الدستور، تبيّن أن ثمّة فارقًا بين مهلة إرسال الموازنة، والمهلة التي تسمح باستعمال الصلاحيّة المنصوص عنها في المادّة 86.
فالدستور يفرض على الحكومة التقدّم بموازنة العام المقبل قبل بدء عقد تشرين الأوّل الشريعي، والذي يبدأ عند “يوم الثلاثاء الذي يلي الخامس عشر من شهر تشرين الأوّل”. أي بمعنى آخر، من المفترض أن يبدأ العقد التشريعي هذه السنة في 17 تشرين الأوّل المقبل، بحسب رزنامة هذه السنة. وعلى هذا الأساس كان بإمكان الحكومة الانتظار لغاية هذا التاريخ، قبل التقدّم بموازنة العام 2024، من دون مخالفة المهلة الدستوريّة.
إلا أنّ امتلاك الحكومة صلاحيّة استعمال المادّة 86، وإقرار الموازنة بمرسوم حكومي، له حسابات أخرى. فلمنح الحكومة هذه الصلاحيّة، يشترط الدستور أن تكون الحكومة قد أرسلت مرسوم مشروع قانون الموازنة قبل بداية العقد التشريعي بخمسة عشر يومًا على الأقل، أي بحلول 2 تشرين الأوّل بالنسبة لزرنامة السنة الحاليّة.
من الناحية العمليّة، كان من الواضح أنّ سلق الموازنة وإرسالها على عجل لم يجرِ على وقع الامتثال لمهلة إرسال الموازنة نفسها، طالما أن حكومة ميقاتي كانت تملك بالفعل –بحكم الدستور- ثلاثة أسابيع إضافيّة قبل التقدّم بهذه الموازنة، أي لغاية 17 تشرين الأوّل. بل جرى إرسال الموازنة على وقع المهلة المحددة لتمكين الحكومة من استعمال المادّة 86، حيث جرت إحالة الموازنة إلى البرلمان في نهاية شهر أيلول، قبل يومين فقط من انتهاء المهلة التي تخوّل الحكومة استعمال الصلاحيّة المنصوص عنها في المادّة 86.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ إصدار الموازنة بمرسوم حكومي، سيصبح متاحًا إذا فشل المجلس النيابي في مناقشة وإقرار الموازنة قبل نهاية العقد العادي المقبل، وبعد انتهاء العقد الاستثناء في كانون الثاني 2024.
حسابات المجلس النيابي
من الأكيد أنّ رئيس الحكومة يملك بالفعل المعطيات التي تسمح له بالرهان على عدم إقرار الموازنة في المجلس النيابي، ما يفتح المجال أمام إقرارها بمرسوم حكومي. فحتّى هذه اللحظة، تتمسّك كتل المعارضة بمبدأ عدم التشريع في ظل الفراغ الرئاسي، ما يعني أن التئام المجلس للتشريع سيستوجب حضور نوّاب التيّار الوطني الحر، لتأمين النصاب. إلا أنّ حضور نوّاب التيّار هذه الجلسة سيتوقّف على تقدير النائب جبران باسيل لضرورة الجلسة، كما جرى في جلسات سابقة، في حين أنّ عدم شعبيّة الإجراءات الضريبيّة المنصوص عنها في الموازنة ترجّح عدم تأمين نوّاب التيّار للنصاب.
وفي جميع الحالات، من الأكيد أنّ جميع الكتل النيابي ستنظر إلى الموانة بوصفها كتلة نار لا يرغب أحد بتحمّلها. فالموازنة –بصيغتها الأخيرة- تنص على كتلة ضخمة من الرسوم والضرائب التي سيجري فرضها للمرّة الأولى، بالإضافة إلى كتلة ضخمة من الزيادات على الضرائب والرسوم القائمة بالفعل، ومنها بعض الرسوم التي ستتم مضاعفتها بنحو 40 مرّة. وفي الوقت نفسه، تدرك جميع الكتل النيابيّة أنّ حذف هذه الإجراءات من نص الموازنة، سيعني مفاقمة حجم العجز الإجمالي فيها، في حين أنّ الحكومة لا تملك اليوم قدرة الاقتراض من السوق أو مصرف لبنان لتمويل هذا العجز.
لكل هذه الأسباب، ستميل الغالبيّة الساحقة من الكتل النيابيّة إلى عدم الخوض في تفاصيل هذه الموازنة منذ الأساس، وتحميل مسؤوليّة الإجراءات الضريبيّة غير الشعبيّة المنصوص عنها في الموازنة لحكومة ميقاتي، عبر إصدار الموازنة بمرسوم حكومي. وبهذه الطريقة، ستتفادى القوى السياسيّة تحمّل مسؤوليّة المصادقة المباشرة على الزيادات الضريبيّة في المجلس النيابي، كما ستتفادى في الوقت نفسه زيادة العجز في الموازنة عبر إلغاء هذه الزيادات من نص الموازنة.
في المقابل، قام رئيس لجنة المال والموازنة ابراهيم كنعان بفتح الباب أمام هذا السيناريو، في تقريره الأخير الذي ردّ بموجبه ميزانيّة العام 2023. فكنعان ربط أحد أسباب الرد بورود الميزانيّة من دون “أي رؤية إصلاحية أو إنقاذية”، ما يوحي بأن كنعان بات يعطي نفسه الحق بتقدير جدوى الموازنة بشكل استنسابي، قبل الشروع بدراستها في لجنة المال والموازنة. وهذا ما قد يعرقل البدء بدراسة ميزانيّة العام 2024، التي تحمل نفس معالم ميزانيّة العام 2023 التي قام كنعان بردها. كما لمّح كنعان في التقرير نفسه لسبب آخر يمكن أن يلجأ إليه لتفادي البدء بدراسة ميزانيّة العام 2024، من خلال اشتراطه توفّر “المعايير الميثاقيّة” في إحالة الموازنة، في تلميح واضح لخلاف التيّار مع ميقاتي بخصوص “ميثاقيّة” عمل حكومته.
على هذا النحو، قد يكون المرجّح اليوم إقرار موازنة العام المقبل بمرسوم في مجلس الوزراء، من الدخول في كباش المجلس النيابي ومزايدات كتله، وخصوصًا في ما يخص الزيادات والتصحيحات الضريبيّة. لكن المشكلة الأكبر، ستتمثّل في طبيعة الموازنة نفسها، التي تغلب عليها التقديرات العشوائيّة وغير الواقعيّة للإيرادات، فيما تتركّز ثلث نفقاتها في بند “الاحتياطي” الذي يعطي الحكومة صلاحيّة الصرف على أبواب غير محددة من النفقات، وهو ما يضعف من شفافيّة الموازنة وقدرتها على تخطيط النفقات بشكل واضح. على أي حال، قد لا يُناقش كل ذلك، إذا مرّت الموازنة برشاقة في مرسوم حكومي.