تعنونت الورقة التي اعدّها فريق التفاوض الحكومي مع صندوق النقد الدولي، الذي يضم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بـ”اعادة ترميم القطاع المالي”، لتوحي بأن الفجوة أو الخسائر بالدولار هي لهذا القطاع عموماً، وبالتالي المودعين بالدولار مع اقتراح رَدّ معظمها بالليرة. حقيقة الأمر خلاف ذلك تماماً استناداً الى الأرقام الواردة في الورقة نفسها. فالخسائر تعود حصراً لمصرف لبنان وتبلغ 69 مليار دولار كما في أيلول 2021. ويفترض راهناً أنها 71 ملياراً بفعل التناقص اليومي للعملات الأجنبية من “الاحتياطي” لزوم الدعم الباقي واحتياجات منصة صيرفة عند الضرورة.
إعترف سلامة، بالورقة والقلم، بأن لديه خسائر بالدولار، بعدما كان أنكر تراكمها المخيف طيلة أكثر من عقدين من الزمن.
أما كيف تراكمت تلك الخسائر، فالأمر تفاقم مع السعي الغريب للحاكم وهَوسه الدائم لتكوين احتياطي عملات كبير في سياسة متعمدة لشفط الدولارات اليه بلعبة الفوائد وبتعاميم تحدّ من التوظيفات المصرفية في الخارج. كان يغري المصارف منذ ما قبل 2002 عندما اخترع “الجونيور والسِنيور نوتس” ومن ثمَّ عمليّات “السواب” وتأجيل الاستحقاقات لمدد أطول وفوائد أعلى. وبعد ذلك ابتدع الهندسات المالية الشهيرة. واستمر في اساليبه تلك لغاية عشية انفجار الأزمة في تشرين الأول 2019، وبفوائد وعوائد لا يمكن أن تحلم بها المصارف في الخارج. وبما ان من حضر السوق باع واشترى، تأسست “فوري” في 2002 وهي الشركة الوسيطة المسجلة أو المتصلة باسم رجا سلامة اخو رياض سلامة التي راحت تأخذ لمصلحتها عمولات تسويق اوراق مالية لبنانية وشهادات ايداع في البنك المركزي. فجمعت من تلك العمولات 326 مليون دولار، رغم ان معظم المصارف وكبار المصرفيّين لم يعرفوا باسم ذلك الوسيط الا بعدما انفجرت فضيحته في حسابات سويسرية اوائل العام الماضي.
كانت اللعبة سارية المفعول طالما ميزان المدفوعات يسجل فائضاً، أي ان الدولارات الداخلة أكثر من الخارجة. انقلبت المعادلة رأساً على عقب اعتباراً من 2011 وتحول ذلك الميزان الى عاجز بقوة. مذ ذاك الحين، كان يجب ترك السوق تصحح نفسها أسوة بما قامت به مصر وتركيا ودول أخرى كثيرة باعتمادها سعراً للعملة مرناً غير مثبّت. فاذا انخفض يستوعب الاقتصاد الصدمة في مدى قصير، بدلاً من انتفاخ الفقاعة وارتفاع كلفة انفجارها.
وفي 2015 صدر تقرير تقييمي مشترك عن صندوق النقد والبنك الدولي يحذر من العجز البالغ 4.7 مليارات دولار في مصرف لبنان أي أكثر من 14,5 ملياراً إذا استثنَينا قيمة الذهب كما كانت آنذاك. لكن حاكم مصرف لبنان اخفى ذلك التقرير ومنع نشره. بلغت لعبة “البوكر” ذروتها في ما سمي بـ”الهندسات المالية التي انفضحت في 2016 وافادت منها المصارف بفوائد على الليرة وصلت أكثر من 22% مقابل جذب دولارات منها ومن عملائها يذهب معظمها الى البنك المركزي بفوائد باهظة.
وكانت ودائع المصارف في مصرف لبنان ارتفعت تدريجياً من 18 مليار دولار في 2010 الى 86 ملياراً في ايلول 2021. أي بزيادة نسبتها 377% في اقل من 12 سنة. وتكبد “المركزي” مقابل الهندسات من جهة وكلفة الشهادات من ثانية خسائر بما بين 17 و20 مليار دولار عبارة عن فوائد دفعها للبنوك أعلى من تلك السائدة في الاسواق المالية الدولية حيث هو يضع احتياطي العملات.
وبنتيجة “الهندسات”، كانت المصارف تباعاً ولاحقاً تسيل استثماراتها المجزية جداً بالليرة ثم تحولها الى دولار وتخرجها من لبنان اما لتسديد خسائر في مصارف لها في سوريا وتركيا والعراق وقبرص.. وإما لتحويل انصبة ارباح. خرجت تلك المبالغ وغيرها من البلاد، فدخلنا في دوامة الدولار الوهمي (لولار) المسجل في ميزانيات المصارف كما مصرف لبنان. وبدا فاقعاً كيف حصل انتهاك لابسط معايير توزيع المخاطر بفعل انكشاف المصارف على مصرف لبنان بنسبة 70% من ودائعها، وهبوط سيولتها بالدولار الى 7% فقط.
وفقا لدراسة اجراها الخبير المالي والمصرفي د.توفيق كسبار استناداً الى ارقام وزارة المالية، خلال الفترة بين 2009 و2019 ضمناً، اخذ مصرف لبنان دولارات من الدولة أكثر مما اعطاها. وذلك بالحصول على حصيلة اكتتابات سندات بالدولار بقيمة 17.5 مليار دولار واعطاء الحكومة ليرات في مقابلها. وخرج منه دولارات الى الدولة بقيمة 13 مليار دولار للفترة عينها علماً بانه أخذ مقابلها ليرات. ليبقى الاستنتاج أنه ليس مقرضاً للدولة بالدولار، ولا هي استنزفت دولاراته.
أين تبخرت عشرات مليارات الدولارات إذاً؟ وفقاً للوزير السابق منصور بطيش يمكن ذكر الآتي:
أولاً، هناك التسديد السنوي النقدي لثمن الفيول أويل لكهرباء لبنان بالدولار. سجل ذلك في ميزانية مصرف لبنان كموجودات أخرى (خطأ مقصود) بحوالى 18 مليار دولار من دون اظهار المبلغ كالتزامات على الدولة التي كانت سددت المبلغ بالليرات.
ثانياً، غطى مصرف لبنان بشكل أو بآخر العجز السنوي للعجز التجاري.
ثالثاً، الفوائد التي دفعت سنوياً على الدين الحكومي بالدولار لا سيما اليوروبوندز والمقدرة قيمتها التراكمية في العشر سنوات الماضية بحوالى 15 مليار دولار علما بان الجزء الاكبر منها جرى تدويره عند الاستحقاقات.
رابعاً، الفوائد التي دفعت سنويا على الودائع بالعملات الاجنبية لا سيما لغير المقيمين ولاصحاب الودائع الائتمانية وهم بغالبيتهم لبنانيون تخفوا خلف ما يسمى «العقود الائتمانية» وقد عمد معظم هؤلاء الى تحويل هذه الفوائد المتراكمة والتي انهكت الاقتصاد الى الخارج تدريجيا خلال 2018 و2019 وحتى 17 تشرين 2019
خامساً: ارباح الهندسات المالية وعمليات السواب التي جرى تحويلها لاحقا وتدريجيا الى دولارات سحب جزء منها كأنصبة ارباح واستعمل معظمها تغطية لخسارات في الخارج ولمؤونات على ديون مشكوك في تحصيلها.