لطالما كان قطاع النقل المشترك (النقل الجماعي) ملجأً احتياطياً للعاطلين من العمل والمتقاعدين. فوضى القطاع أسهمت في اكتسابه هذه الوظيفة بينما كان يفترض أن يكون دوره خدمة منظّمة لها جدوى اقتصادية واجتماعية. مع الانهيار، ورفع الدعم عن أسعار المحروقات، بدأ القطاع يفقد دوره المكتسب من الفوضى نحو مزيد من… الفوضى. هذه هي خطيئة التخلّي عن النقل العام كما يعبّر عنها الخبير في مجال النقل رامي سمعان
لا شكّ لدى الخبراء والباحثين في أن قطاع النقل المشترك سيتقلّص بسبب الأزمة. في السابق انتفخ القطاع بسبب فوضى التشغيل وغياب نقلٍ عام، وتحوّل إلى قطاع احتياطي يقصد في مواجهة البطالة والتقاعد. اليوم بدأت تتّضح حجم الخسائر في هذا القطاع، إذ إن ارتفاع الأكلاف والتعرفات كبح الطلب على «التاكسي»، فيما حافظت السيارة على مكانتها النسبية. فالأرقام التي يعدّها الخبراء تظهر أن حجم قطاع النقل الجماعي سيتقلّص. فقد تبيّن أنه في عام 2021، ازداد عدد الذين لا يستخدمون التاكسي والسرفيس نهائياً، بنسبة 35%، وازداد عدد مستخدمي النقل المشترك الجماعي (باص وفان) بنسبة 23% انسجاماً مع تقلص عدد التنقلات خارج الضرورة بنسبة 30%.
قبل نحو سنة، كان سعر صفيحة البنزين لا يتجاوز 46 ألف ليرة. وفي تلك الفترة تحديداً، كانت هناك أزمة توافر الكميات. أحياناً تكون متوافرة بشكل مستدام، وأحياناً مقطوعة. بعدها بقليل، رُفع الدعم عن البنزين الذي كان يطبّق من خلال سياسات نقدية تقضي بتمويل الاستيراد بدولارات مصرف لبنان وفق سعر صرف يبلغ 1520 ليرة لكل دولار. وإلى جانب ذلك، بدأت أسعار النفط العالمية ترتفع اعتباراً من منتصف شباط 2022. وفي منتصف حزيران 2022 بلغ سعر صفيحة البنزين 691 ألف ليرة، بينما سعر صرف الدولار ارتفع إلى 28500 ليرة في السوق الحرّة وسعر منصّة صيرفة 24900 ليرة لكل دولار. سعر صفيحة البنزين ازداد 15 ضعفاً، بينما ازداد سعر الدولار نحو 12 ضعفاً. أما المداخيل فلم تتطوّر بالمستوى نفسه. رسمياً لم يزد الدخل الوسطي المصرّح عنه للضمان أكثر من ضعف واحد، بينما بشكل غير رسمي زاد نحو ثلاثة أضعاف كحدّ أقصى وسط استحواذ بنود استهلاك أخرى على حصّة أساسية من الدخل.
إذاً، ما هي نتائج هذه التطوّرات على جانبي العرض والطلب في قطاع النقل. وفق أرقام دراسةٍ أجراها الباحث في مجال النقل علي الزين، فإنه في عام 2021 تراجع بشكلٍ عام استخدام النقل المشترك لصالح السيارة، إذ انخفض عدد التنقّلات بين المسكن ومكان العمل أو الدراسة بنسبة 32%، فيما انخفض عدد التنقلات الأخرى (زيارات، تسوَق القرية…) بنسبة 65%. ازداد عدد من لا يستخدمون السيارة نهائياً 3% فقط، و9% من الأسر قلّلت عدد السيارات في حوزتها، مقابل 35% تخلوا عن استخدام التاكسي والسرفيس بتاتاً و23% تخلوا عن الباص والفان. من ترك النقل المشترك في هذه الفترة أو قلل استعماله هم بشكل خاص الموظفون وذوو الدخل المتوسّط في حالة التاكسي، والطلاب الجامعيون بشكلٍ عام. بشكل عام، يتبيّن أن معظم مستخدمي النقل الشعبي هم من الفئات الأكثر هشاشة من ذوي الدخل المحدود، والعمال الأجانب، وسكان الأطراف. أما بالنسبة لمستخدمي التاكسي والسرفيس، فإنهم من النساء وذوي الدخل المتوسط والموظفين. علماً بأنه في عام 2018، كان نحو ربع مستخدمي النقل المشترك الشعبي، وخصوصاً مستخدمي الفانات، يفضّلون النقل المشترك نظراً لكلفته المنخفضة برأيهم، مقابل 60% كانوا يستخدمونه بسبب غياب بدائل (عدم القدرة على شراء سيارة مثلاً).
لذا، يتوقع الزين أن النمط الانحداري استمرّ في النصف الأول من 2022: «تقليص التنقّل بشكلٍ عام بسبب كلفته المرتفعة على مداخيل الأسر، ما يعني تراجع إضافي في الطلب على النقل الشعبي، وهو ما يترجم مباشرة في تراجع العرض، مع محافظة السيارة على مكانتها كوسيلة أولى للتنقل بنسبة 70%، بخاصة أن من ترك النقل المشترك توجّه نحو المشي أو السيارة الخاصة. ليبقى (التاكسي) الخاسر الأول.
عوامل عدّة ستدفع عارضي خدمة النقل المشترك إلى ترك السوق مرغمين، وفق الزين، فإن وزارة الأشغال والنقل تتلكأ في إصدار تعرفة رسمية تعدّل باستمرار لتتناسب مع متغيرات أسعار المحروقات، وتقطع المجال أمام فوضى التسعير الخاضعة لمزاجية السائق وتأثيرها في الزبائن وترددهم في طلب الخدمة. وهذا الأمر يسهم في ترسية العوامل السلبية على العرض والطلب في القطاع. ويضاف إلى ذلك الخسارة اللاحقة بالنقل المشترك لجهة ميزته التفاضلية التي سبقت الانهيار وكانت متوافرة أيام الدعم: كلفة انتقال متدنية مقابل كلفة مرتفعة لاستخدام السيارة الخاصة. بمعنى أنه لم يعد وفّيراً. علماً بأن التعرفة ليست المعيار الوحيد لاختيار وسيلة النقل إذ «يبحث المستهلك كذلك عن الخصوصية والراحة والحرية وسرعة التنقل» يقول الزين. هذه العوامل الداخلية وأخرى خارجية كتوافر المرأب ومراكز صيانة السيارات وشبكة الطرقات الضخمة نسبة إلى حجم البلد، منعت النزوح من النقل الخاص نحو الجماعي، وهذا إن حصل سيكون مؤقتاً وليس مستداماً، إذ إن العامل الاقتصادي فعّال لكن غير مستدام، وغالباً سيعود المستهلك إلى النقل الخاص عند أول تحسّن في راتبه.
وبحسب الأرقام الرسمية، تتوزّع وسائل النقل المشترك الشرعية في لبنان بين 33500 سيارة أجرة و1500 باص و400 فان، لكن التقديرات تدور حول زيادة بنسبة 30% مصدرها القطاع غير الشرعي والذي يتركّز على مستوى الفانات. تضخّم القطاع بشكله الحالي جاء نتيجة تخلّي الدولة عن دورها بإنشاء قطاع نقل عام مشترك منظّم ومشغّل ومدعومٍ من قِبلها، وفق خطوط سير واضحة وتحديد من يقدّم الخدمة. ما سهّل انتفاخ القطاع بالمتقاعدين والباحثين عن عملٍ لا يحتاج إلى رأسمال ولا إلى مؤهلات مهنية عالية.
كان دعم السلطة غير المباشر للمحروقات ولتثبيت سعر صرف الليرة، عاملاً جاذباً لدخول القطاع المربح. هذا تحديداً ما يسميه خبير النقل رامي مسعد بـ«المنظومة المستترة التي دعمت السائقين العموميين طيلة الفترة الماضية، وغيّبت عوامل أخرى من دون تطوير منافسة وكأن الدولة عم تدعمهم بشكلٍ مباشر». عاش هؤلاء «فترات عزٍ» متقطّعة. وما التهديد الذي يطاولهم راهناً، وهم من الفئات الأكثر عرضة للاهتزاز، إلا بفعل الفوضى نفسها التي استفادوا منها سابقاً. بالمحصّلة «تُرك مقدمو خدمة ما يسمى اعتباطاً النقل المشترك لاقتصاد السوق» يقول مسعد، جازماً أن «في ظل العمل خارج منظومة نقل مشترك وآليات طوارئ وإدارة المخاطر، لا إمكانية لتوقّي جزء من مخاطر الأزمة التي كشفت العيوب وعرّت خطيئة التخلّي عن قطاع نقل عام مشترك».
يميل مسعد إلى اعتبار التوجه نحو العمل في النقل المشترك ليس أفضل قرارٍ يتّخذه أي متقاعدٍ أو باحثٍ عن العمل، تبعاً للكلفة الهائلة من أسعار النمر إلى المحروقات والتصليح وقطع السيارات. لكن ما بات واضحاً بفعل ما حصل في السنوات الثلاث الأخيرة، أن النقل المشترك يخسر إحدى أدواره كقطاع احتياط للمتقاعدين والذي استفاد من غياب تنظيم القطاع والنقل العام.