بالتقشّف والتضخّم والبطالة والخصخصة جاءتكم خطّة الحكومة للإصلاح. هي أتاحت القيام بتحديد أوّلي للخسائر مع اقتراح آليات توزيع غير عادلة وغير مبنية على رؤية اقتصادية تعيد النظر بالنظام الضريبي كأداة لإعادة توزيع الثروة، بل على العكس تحاول إحياء نموذج اللاعدالة في التوزيع، انطلاقاً من معادلة أساسية: تدفيع المصارف جزءاً من ثمن الخسائر، في مقابل تضخّم هائل يدفع ثمنه المقيمون في لبنان بمدّخراتهم ورواتبهم بلا ضمانات لحدود هذه الكلفة
في بنية خطّة الحكومة لـ«التعافي»، ثمّة ما يوحي بأنها تسعى إلى إعادة إحياء النموذج السابق نفسه الذي أوصلنا إلى الحالة الراهنة، أي أن يكون الاقتصاد في خدمة رأس المال وليس العكس كما يُفترض. هي أقرب لتكون تقييماً للخسائر، بدلاً من تكريس رؤية اقتصادية للنموذج البديل. فالنموذح الحالي، المنهار، أبقى الاقتصاد رهينة أكثر من عقدين، لخدمة التدفقات المالية بالعملات الأجنبية. كان يعمل على استقطاب هذه العملات من الخارج عبر رفع أسعار الفائدة، ويستعمل حصيلة الدولارات الآتية من أجل تمويل الاستهلاك في إطار الدفاع عن تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار. تباينت الاستفادة من التدفقات وتضخّمت الهوة الناتجة من سوء توزيعها. بعبارة أوضح: القلّة استفادت وراكمت الثروات على حساب الأكثرية التي راكمت الفقر.
فجوة تحرير الليرة
أهمّ فجوة في الخطّة، أنها تعاملت مع مسألة تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار بخفّة ظاهرة. قبل يوم واحد من إقرارها في مجلس الوزراء، بُنيت حسابات الخطّة على تحرير سعر الصرف ليبلغ 3500 ليرة مقابل الدولار، ثم تخلّت عن هذه الخطوة تاركة عبارة متناقضة مع الواقع: «الحكومة تعتزم الانتقال إلى سعر صرف مرن»، مشيرة إلى أنه سيبلغ 4297 ليرة مقابل الدولار في 2024.
يثير هذا الأمر تساؤلات عن قدرة الحكومة على توحيد أسعار الصرف المتداولة في السوق الموازية وفي السوق النظامية، فضلاً عن أنه «ليس واضحاً ما ستكون عليه الأمور في حال عدم تنفيذ الإصلاحات المعلنة في الخطة»، بحسب الوزير السابق سمير المقدسي. برأيه إن «آلية تحديد سعر الصرف على 3500 ليرة والخفض السنوي بمعدل 5%، ثم التراجع عن الأمر يترك مجالاً كبيراً للإرباك، ويفتح المجال أمام توقعات غير محسوبة، وخصوصاً أن احتساب الخسائر على سعر الصرف النظامي الحالي يختلف كثيراً عن احتسابها بعد خفض قيمة الليرة».
هذا يعني أن سياسة سعر الصرف التي ستتبع غير واضحة. هذا الأمر ناجم عن قصور الرؤية الاقتصادية وتمسّك الخطّة بالأبعاد المحاسبية للخسائر وتوزيعها فقط. فأيّ مستوى لسعر الصرف يجب أن يعكس القيمة الفعلية للتبادلات السلعية والخدماتية بين لبنان والخارج، وبالتالي يعكس سياسة واضحة تجاه الاستيراد والتصدير بمعنى الإنتاج والاستهلاك. وعلى سبيل المثال، إن تقييد الاستيراد بأي شكل من الأشكال، سواء لدعم سلع معينة، أو رفع الرسوم الجمركية عن سلع أخرى أو فرض رسوم أخرى على السلع والخدمات المستوردة… سينعكس مباشرة على سعر الصرف العائم أو المحرّر. لذا، فإن الاتجاه الذي تعتزم الحكومة سلوكه اقتصادياً يحدّد نياتها تجاه سعر الصرف والنتائج المترتبة على السياسات النقدية والمالية، مثل التضخّم والبطالة والفقر وسواها.
على أبواب التضخّم المفرط
ثمة من يقول أيضاً إن شطب كل الخسائر دفعة واحدة أمر غير منطقي في ظل تضخّم بمعدل 53% في 2020 و23.3% في السنة التالية لينخفض بعدها إلى 6.6%، وصولاً إلى 6.2% في 2024. فهذا التضخّم سيأكل حتماً من الخسائر، وسيؤدي إلى تآكل قيمة المداخيل بالليرة، وسيكون له مفاعيل أوسع في الاقتصاد وربما يتحوّل إلى تضخّم مفرط غير قابل للسيطرة… وبالتوازي سيتقلّص الناتج المحلي الإجمالي من 49 مليار دولار في 2019 إلى 26 ملياراً في 2020، ما يعني أن الناتج الفردي سيتقلص من 8 آلاف دولار سنوياً إلى 4300 دولار سنوياً.
غير أن الخطّة تلحظ عودة النمو في 2022 بشكل مفاجئ «وذلك عبر الرهان على النشاط السياحي. يمكنهم أن يراهنوا بمقدار ما يشاؤون، لكن هذا الرهان ليس واقعياً»، بحسب الوزير السابق جورج قرم.
مسار غير منتج
تأتي هذه التقديرات من دون أن تلحظ مسألة ضرورية وأساسية لتحفيز النموّ وإعادة إطلاق النشاط الاقتصادي. لعلّ أهم آليات استعادة النموّ تكمن في توفير الائتمان، أي أموال جديدة يمكن ضخّها في السوق لتحريك الإنتاج والاستهلاك والعمل على التوازن ما بينهما. لن يتوفّر هذا المسار إلا بأموال تضخّ بشكل موجّه في السوق لتحقيق أهداف اقتصادية واضحة. فالإقراض يجب أن يكون مبنياً على توجّهات الإنتاج المحلي وليس نحو زيادة تركيز مستويات الاستهلاك، كما كان في العقدين الأخيرين. «مبدئياً، يجب تشجيع قطاعات إذا كنا ذاهبين نحو مجتمع إنتاجي، ويجب التخلص من اتفاقيات التبادل الحر الموقّعة يميناً ويساراً»، يقول قرم. وهو يرى أن «الخطّة لا تعالج بشكل مباشر مصادر الاقتصاد الريعي ولا تقضي عليه، بينما المطلوب منها الانتقال نحو نموذج إنتاجي. حالياً، هناك مبادرات فردية في السوق، وهي لا تأتي ضمن سياسة الدولة».
العودة إلى الاستدانة بالدولار
في مقابل ذلك، تحدثت الخطّة عن حلّ يقضي بالاعتماد على الخارج لردم فجوة التمويل بالعملات الأجنبية. أي الاستدانة بالدولار من الخارج من أجل الحصول على التمويل اللازم لاستيراد السلع والخدمات المحلية. «عملياً، يتم تغطية الفجوة المحليّة عبر الأسواق الخارجية ليصبح الدين الخارجي أكبر، بينما هذا الدين بالتحديد كان هو أصل المشكلة»، يقول أحد الخبراء. فمن المتوقع، بعد شطب الخسائر، أن يعيد النظام إنتاج مسار الاستدانة بالدولار، من صندوق النقد الدولي (إذا وافق) ومن الدول المانحة (إذا وافقت). وبالتالي، سنعود إلى السباحة في الدوامة نفسها، أي البحث عن الدولارات الكافية لتغطية خدمة الديون بالدولار وتمويل استيراد لبنان السلعي والخدماتي. ما يعني أن الحاجة إلى استقطاب الدولارات ستتزايد مع الوقت، وستصبح ملحّة في مرحلة ما كما هي الآن. فلماذا علينا أن نرهن أنفسنا للخارج بهذه الطريقة؟ «أي إصلاح يجب أن يوقف الدين بالعملة الأجنبية» بحسب هذا الخبير.
سعر الصرف يجب أن يعكس سياسات اقتصاديّة واضحة للإنتاج والاستهلاك
بالإضافة إلى ذلك، يعتقد قرم أن قسماً من قروض صندوق النقد الدولي «ستذهب لتمويل برامج متصلة بالحدود مع سوريا. هذه البرامج ليست ضرورية للاقتصاد، لكنها مطلب سياسي. لا ننسى أن أميركا هي التي تدير صندوق النقد».
ورغم أن المطلوب رؤية واضحة للإنتاج والاستهلاك، إلا أنه على العكس، تتجاهل الخطّة المشاكل الناشئة في القطاع العام الذي يستوعب العدد الأكبر من العمالة المحلية. فتحرير سعر صرف الليرة سيؤدي إلى مفاعيل سلبية على العقود التجارية مثل القروض المصرفية للأفراد والشركات، وعقود الإيجارات، وعقود العمل… كلّها مشاكل ليس واضحاً كيف ستعالجها الخطّة؛ فهل سيتم شطب كل الديون المصرفية المضمونة بعقارات؟ هل يمكن اعتبار 30% من الديون هالكة كما ورد في الخطّة؟
مزيد من التقشّف
بنتيجة الضربة التي سيتعرض لها القطاع الخاص، فإن إيرادات الموازنة ستتعرض هي الأخرى لنكسة. هي تعتمد على تحصيل الضرائب: «فهل بالإمكان تحصيل الضرائب المتوقعة في الخطّة؟»، يسأل الخبير. ففي الواقع، هناك تقشّف واضح في الخطّة يعزّز الركود القائم الذي ارتفعت معدلاته بسبب الإغلاق الناتج من انتشار وباء «كورونا». وإلى جانب ذلك، تقترح الخطّة تقليص القطاع العام والمسّ بالنظام التقاعدي لآلاف العسكريين والمدنيين العاملين في الخدمة أو المتقاعدين الذين ستتآكل مداخيلهم إلى مستويات مخيفة بفعل تحرير سعر الصرف، وصولاً إلى صفر عجز في الموازنة. ورغم عدم جديّة مثل هذا الطرح، إلا أنه ليس بالإمكان تصفير العجز من دون زيادة الضرائب ومن دون تقشّف مدقع.
الخطّة تعود إلى الاستدانة بالدولار لنغرق مجدّداً في وحل البحث عن دولارات لخدمة الدين
ويزداد المشهد إرباكاً «لأن الودائع المصرفية التي تعتزم الحكومة الاقتطاع منها لا تقتصر على كبار المودعين، بل على ودائع الطبقة الوسطى أيضاً، وهي كلها بمثابة مدّخرات وطنية تحدّد تمويل الاقتصاد الوطني. بينما سيتساوى الذين حقّقوا أرباحاً غير شرعية مع الذين ادّخروا أموالهم الناتجة من نشاطات مشروعة»، وفق المقدسي. المشكلة أن «كل الإصلاحات الاقتصادية المهمة وردت في آخر الخطّة، سواء ما يتعلق بتحفيز النموّ وتعزيز القدرات التنافسية المحلية ومكافحة الفساد وشبكات الأمن الاجتماعي والإصلاحات الجمركية… كلها كان يجب أن تكون العمود الفقري لأي خطّة وليس أن تكون على هامشها».
قرم لا يعلق مباشرة على الهيركات المقترح على الودائع المصرفية إلا من باب «تسليم أملاك الدولة للقلّة التي راكمت الثروات»، بينما «أكبر هيركات هو التضخّم. الدولة تعيش خارج هموم المواطنين».