دخول “قطر للطاقة” إلى لبنان: استكمال لمسارات دوليّة

بعد أن تريّثت بانتظار تحقيق أفضل الشروط، دخلت قطر للطاقة أخيرًا شريكًا في كونسورتيوم الشركات الأجنبيّة العاملة في البلوكين 4 و9 في لبنان، إلى جانب كل من توتال الفرنسيّة وإيني الإيطاليّة، كبديل عن شركة نوفاتيك الروسيّة التي انسحبت من الكونسورتيوم في وقت سابق. وكان من الواضح أن الشركة القطريّة أصرّت على رفع حصّتها إلى 30%، بدل 20% كما كان الحال مع الشركة الروسيّة سابقًا، مع ما يعنيه هذا الأمر من زيادة في كلفة العمليّات التي ستتحملها قطر للطاقة، وزيادة في الإيرادات في حال العثور على كميّات تجاريّة من الغاز. وهذه الخطوة بالتحديد، عكست ترقّب الشركة القطريّة عوائد محتملة من عملها في لبنان، خصوصًا أن زيادة الحصّة سيعني زيادة الخسائر في حال عدم وجود عوائد جديّة في المستقبل.

من المعلوم أن شركات النفط الدوليّة لا تدخل هذا النوع من مشاريع الاستكشاف والتنقيب ولاحقًا الاستخراج، منفردة، بل تدخل من خلال تحالفات لتوزيع مخاطر الخسائر، التي يمكن أن تنتج عن الإنفاق على الاستكشاف والتنقيب من دون العثور على كميات تجاريّة من النفط او الغاز. وهذا النوع من التحالفات، غالبًا ما يتصل بتفاهمات عابرة للدول، وباتفاقيّات تربط نتائج البحث عن النفط والغاز في أسواق الغاز المختلفة.

في حالة لبنان، من الواضح أن التطوّرات الأخيرة، التي أفضت إلى دخول قطر للطاقة بدل نوفاتيك، ارتبطت بتحوّلات موازية في أسواق عالميّة أخرى، وخصوصًا على مستوى علاقة توتال مع شركتي قطر للطاقة ونوفاتيك. وبصورة أوضح، كان ما جرى في لبنان مجرّد استكمال لسلسلة من الأحداث، التي كانت تذهب بالاتجاه نفسه على المستوى الدولي.

انسحاب نوفاتيك: الطلاق مع توتال وإعادة هيكلة النشاطات

لا يمكن فصل حدث انسحاب شركة نوفاتيك الروسيّة من الكونسورتيوم العامل في البلوكين 4 و9 في لبنان، مع التطوّرات المتصلة بابتعاد الشركة الروسيّة عن المشاريع المتصلة شركة توتال الفرنسيّة. ففي منتصف شهر كانون الأوّل الماضي، قررت توتال شطب ما يقارب 3.7 مليار دولار من الأصول في ميزانيّاتها، ما يمثّل الحصّة التي تملكها من أسهم شركة نوفاتيك، والمقدّرة بنحو 19.4% من قيمة تلك الأسهم. كما قررت توتال الانسحاب من مجلس إدارة شركة نوفاتيك، الذي جاء كنتيجة لاستحواذ توتال على نسبة وازنة من أسهم نوفاتيك في السابق.

وهذا الحدث، الذي مثّل طلاقًا استثماريًّا بين الشركتين، جاء انعكاسًا لحرب الطاقة الجارية اليوم بين روسيا والدول الغربيّة، بعد غزو روسيا للأراضي الأوكرانيّة، والتي أدّت إلى فرض عقوبات أوروبيّة وأميركيّة قاسية على قطاع الطاقة الروسي. مع الإشارة إلى أنّ شركة توتال اضطرّت للاكتفاء بشطب قيمة الأسهم التي تملكها في نوفاتيك على هذا النحو، نظرًا لتعذّر بيع هذه الأسهم لأي طرف غربي أو روسي، بسبب العقوبات المفروضة على روسيا.

في وقت سابق، كانت توتال قد انسحبت من مشاريع الاستكشاف والتنقيب والاستخراج في المحيط المتجمّد الشمالي، والتي كانت قد دخلتها ضمن تحالف تقوده شركة نوفاتيك، في استكمال لعمليّة الطلاق مع الشركة الروسيّة. وهذا الانسحاب بالتحديد، جاء بالرغم من عثور نوفاتيك على كميّات تجاريّة وازنة من الغاز الطبيعي في تلك الحقول، ما يشير إلى أنّ الانسحاب من ذلك المشروع لم يكن مدفوعًا بأسباب تجاريّة او استثماريّة، بل بأسباب سياسيّة متصلة بالعقوبات على روسيا.

في المقابل، كانت نوفاتيك طوال الأشهر الماضية تشرع في عمليّة إعادة هيكلة نشاطاتها حول العالم، بعد العقوبات الغربيّة التي حدّت بشكل كبير من مرونة الشركة وقدرتها على ممارسة أنشطتها الاستثماريّة بشكل طبيعي. وعمليّة إعادة هيكلة، لم تؤدِّ إلى فرملة أنشطة الشركة بشكل تام، بل إلى تقليص نطاقها، بما يشمل الانسحاب من المشاريع التي كان يقودها الشركاء الغربيين، كحال البلوكين رقم 4 و9 في لبنان.

كجزء من هذا المشهد، يصبح انسحاب نوفاتيك من كونسورتيوم لبنان مجرّد نتيجة طبيعيّة، تتكامل مع انسحاب توتال من الأنشطة التي تقودها نوفاتيك في المحيط المتجمّد الشمالي. وفي مقابل هذه التطوّرات، كانت نوفاتيك تحاول البحث عن شركاء تجاريين من دول أخرى، كتركيا والإمارات العربيّة المتحدة، للحصول على التكنولوجيّات اللازمة لاستكمال مشاريعها بعد إعادة الهيكلة، وخصوصًا بعد تعذّر الحصول على هذه التكنولوجيّات من الشركاء الغربيين التقليديين.

وفي جميع الحالات، من المؤكّد أن نوفاتيك لم تخسر –بانسحابها من كونسورتيوم لبنان- أي مكامن مكتشفة من الغاز أو بنى تحتيّة مشيّدة. بل وعلى العكس تمامًا، تفادت الشركة الروسيّة تحمّل المزيد من النفقات، التي كان من المفترض أن تترتّب على حفر البئر الاستكشافيّة الجديدة خلال شهر أيلول المقبل. أمّا الخسارة الوحيدة، فهي ما أنفقته نوفاتيك في السابق في لبنان، كجزء من الكونسورتيوم، على الأنشطة الاستكشافيّة، والتي راهنت على استعادة رأس المال في حال اكتشاف كميّات تجاريّة من الغاز الطبيعي في المستقبل.

قطر للطاقة: توسّع نطاق المشاريع الاستثماريّة

في المقابل، امتلكت شركة قطر للطاقة رؤيتها الخاصّة للتوسّع في مشاريعها الاستثماريّة، المرتبطة بدورها بزيادة الفوائض الماليّة الناتجة عن ارتفاع أسعار الغاز العالميّة، ورغبتها بتوظيف هذه الفوائض في مشاريع استراتيجيّة على المدى البعيد. مع الإشارة إلى أنّ جزءاً أساسياً من هذه المشاريع يجري اليوم بالشراكة مع شركة توتال نفسها، كمشروع توسعة حقل الشمال الجنوبي في قطر، الذي تمّ إبرام اتفاقيّاته خلال شهر أيلول الماضي. وبموجب تلك الاتفاقيّات، حصلت توتال حصّة تقارب 9.375% من ذلك الحقل، من أصل نسبة 25% التي حصل عليها الشركاء الدوليون في الحقل، فيما احتفظت قطر للطاقة بنسبة 75% من إجمالي الحصص.

وقبل أيّام قليلة فقط، كانت قطر للطاقة استحوذت على حصّة تقارب قيمتها 27 مليار دولار، من مشاريع شركة توتال في العراق، فيما أشارت المصادر إلى أن قطر للطاقة تسعى لرفع حصّتها من تلك المشاريع إلى نحو 30%، وهو ما يوازي حصّتها من الكونسورتيوم في لبنان. ومن المفترض أن تسهم كل تلك المشاريع في إطلاق شبكة لجمع الغاز الطبيعي في العراق، الموجود أساسًا بكميات كبيرة، وهو ما من شأنه السماح للعراق بتقليص اعتماده على الغاز الإيراني لإنتاج الكهرباء. ويراهن العراقيون على دخول شركاء جدد، مثل قطر للطاقة، للحد من انسحابات شركات الطاقة الدوليّة من البلاد، التي أتت بالتزامن مع تعقّد المشهد السياسي العراقي.

أمّا شراكة قطر للطاقة مع توتال الفرنسيّة، فيبدو أنّها باتت بدأت تكتسب طابعاً استراتيجياً، وعلى مستوى دولي لا إقليمي فقط، ما يوحي بوجود حسابات وتفاهمات عابرة للدول بين الشركتين. فعلى سبيل المثال، وخلال شهر كانون الأوّل الماضي، فازت الشركتان معًا، وبالشراكة مع شركة “بتروناس” الماليزيّة، بحصّة مشاركة في حقوق التنقيب والاستخراج في منطقة أغوا-مارينيا البحريّة البحريّة في البرازيل، في إطار الجولة الأولى من العروض التي نظمتها الوكالة البرازيلية الوطنية للبترول والغاز الطبيعي والوقود الحيوي.

وهكذا، جاء دخول الشريك القطري إلى السوق اللبنانيّة كجزء من استراتيجيّة التوسّع في المشاريع الإقليميّة والدوليّة، والتي تتناسب مع وضعيّة قطر الحاليّة كمنتج مستفيد من حاجة الأسواق الدوليّة للغاز، ومن ارتفاع عوائد بيع الغاز القطريّة. وتجدر الإشارة إلى أنّ دولة قطر تتصدّر اليوم قائمة منتجي الغاز المسال في العالم، كأكبر مصدّر لهذه المادّة، التي ارتفعت الحاجة إليها في أوروبا بعد انقطاع إمدادات أنابيب الغاز الطبيعي الروسيّة. كما يرتفع الطلب على هذه المادّة بالتوازي مع إعادة فتح الأسواق الصينيّة، ابتداءً من مطلع هذا العام، وما سيرافق ذلك من زيادة في الطلب على مصادر الطاقة.

في جميع الحالات، أهم ما في الأمر هو أن إعادة هندسة الكونسورتيوم على النحو الذي جرى، سيسمح خلال الخريف المقبل بالبدء بأعمال الحفر وفقًا لخطط الشركات الثلاث، وهو ما سيستكمل مسار التنقيب الذي بقي مجمّدًا طوال الأشهر الماضية. أمّا التحدّي الأخير، فسيكون تمكّن الشركات الثلاث من التوصّل إلى تفاهم فيما بينها أولًا، ومع الدولة اللبنانيّة ثانيًا، حول كيفيّة استثمار وبيع كميّات الغاز التجاريّة في حال العثور عليها.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةخريطة توزيع ساعات الكهرباء: تفاوت بين المناطق والعاصمة والضواحي
المقالة القادمةمحلات الألبسة المستعملة وإصلاح الأحذية تزدهر في لبنان