يصعب التعبير عمّا يواجهه مرضى السرطان. كلّ ما يتمناه من يعرف قليلاً عن ظروفهم، أن يدعو بألا يصاب أحد بمرض سُمّي يوماً بـ«الخبيث» بسبب عوارضه الجسدية والنفسية، ولم يُلحظ أنّ خبث السياسات الصحية في لبنان أشدّ وأقسى. المرضى الذين لم يستفيقوا بعد من صدمة رفض علاجاتهم وبالتالي توقيفها، في انتظار تغيير البروتوكولات الصحية، يواجهون اليوم تحدي الاستمرار في دعم أدويتهم مع اعتماد سعر صرف دولار 15 ألف ليرة بدل الـ1507 ليرات
قبل يومين، بدأ تطبيق القرار القاضي باعتماد الـ 15 ألفاً سعر صرف جديداً بدلاً من الـ 1507 ليرات. صحيح أنه حتى هذه اللحظة، لم تتّضح الصورة التي سيكون عليها الوضع بالنسبة إلى كثير من السلع والمستلزمات والرسوم وغيرها، والتي كانت لا تزال تدفع أو تدعم على أساس سعر الصرف القديم، إلا أن بعض الجهات أحسّت بثقل الأمر وبدأت بطرح الأسئلة عما سيكون عليه المصير ما بعد قرار الأول من شباط. ومن بين هؤلاء نقابة مستوردي الأدوية، التي سارعت عقب بدء العمل بالقرار إلى إصدار بيان تسأل فيه «السلطات المعنية عن سعر الصرف الذي سيعتمد لدعم الأدوية مستقبلاً»، طالبة اتّخاذ قرار سريع، باعتبار أن «أيّ تأخير سيؤدي بدوره إلى تأخير وصول شحنات الأدوية القادمة إلى لبنان، ما سيهدّد بتلبية احتياجات المرضى اللبنانيين وسيترتّب عليه حكماً تداعيات خطيرة وسلبية».
الدخول في جهنم صحية
ببيانها السريع والمقتضب، حاولت نقابة المستوردين أن «تلحق» وضعها، وخصوصاً مع تسرّب أخبار عن توجّه مصرف لبنان نحو اعتبار الدواء سلعة كغيره، خاضعاً حكماً لتداعيات القرار الجديد. واللافت أن التسريبة لم تطل لفترة طويلة، إذ تشير مصادر مطّلعة من داخل المجلس المركزي للمصرف إلى أن «الأمر صدر»، ما دفع برئيس لجنة الصحة النيابية، الدكتور بلال عبد الله، إلى رفع الصوت أمس، مطالباً المسؤولين، من رئيس مجلس الوزراء إلى رئيس مجلس النواب «بإنقاذ 30 ألف مريض سرطان كانوا يستفيدون من دعم أدويتهم على سعر صرف 1500 ليرة لبنانية قبل أن يرفعه إلى 15 ألف ليرة». بالنسبة إلى عبد الله، إما أن يعاد النظر بمصير الأدوية السرطانية أو أن «تدخل البلاد جهنم صحية مع قرار يرفع الدعم جزئياً عن أدوية الأمراض السرطانية والمستعصية والمناعية». وحمّل عبد الله «المجلس المركزي لمصرف لبنان المسؤولية عن وفاة أي مريض يعاني السرطان أو الأمراض المستعصية أو أمراض المناعة، وسنكون إلى جانب أهالي المرضى في حال أرادوا الادعاء على المتسببين بوفاة مرضاهم»!
هل لدى الدولة 500 مليار ليرة؟
على الطرف الآخر، وفي ظلّ «الارتياب والضبابية» لدى الجهات المعنية من وزارة الصحة إلى نقابة المستوردين، من القرار، يبدو أن المصرف المركزي بات في مكان آخر. في كوكب بعيد كل البعد عما يجري، مع التأكيد بأن القرار أمر واقع. وبحسب مصادر مطّلعة، فقرار المركزي بات واضحاً بالنسبة إلى أهله، إذ إن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لا يعتبر الأول من شباط تاريخاً اعتباطياً في ما يخصّ «نقلة» الدعم. فأيّ سلعةٍ ـــ بغضّ النظر عن الدواء ــــ سيكون التعاطي معها على سعر صرف الليرة الجديد. وهذا يعني في ما يخصّ ملف دعم الأدوية والمستلزمات الطبية، بحسب المصادر، أن «مصرف لبنان لن يتهرّب من التزاماته بتحويل 35 مليون دولار لدعم الدواء والمستلزمات الطبية ضمناً»، غير أن ما «يطلبه مقابل البقاء عند هذا الالتزام، أن تتكفّل الدولة بتحويل ما قيمته 500 مليار ليرة إلى الحساب، لا 50 مليار ليرة كما كانت سابقاً».
عملياً، يطلب سلامة من دولة عاجزة اليوم عن سداد مستحقات على الليرة السابقة التحويل على أساس ما بات بديهياً له: التسديد على الـ 15 ألف ليرة لبنانية. هكذا، قرّر حاكم بيت المال أن يفعل بالمرضى ما لم يفعله السرطان حتى اللحظة: القتل عمداً، وهو اليوم يضع القرار في عهدة وزارة المالية، وانتظار الإجابة عن سؤال: هل ستعمل الدولة على تحويل 500 مليار ليرة أم لا، للبناء على الشيء مقتضاه؟ وهذه العبارة الأخيرة ليست حمّالة أوجه، فهي حاسمة «إما أن تحدث النقلة، وإلا فإن المنطق يعني التوقف عن بتّ الطلبات».
ما هو مصير الدعم؟
هكذا، رمى المصرف المركزي الفتيل قبل وقوع الحريق، مستبقاً أي قرار يخصّ أي دعم لاحق. إذ إنه عملياً، بحسب المصادر المطلعة، «ليس هناك من ظنّ بأن يتخذ المصرف المركزي أي خطوة معرقلة هذا الشهر على الأقلّ». إلا أن ما رماه يدقّ ناقوس الخطر الجدي حول ما سيكون عليه مصير الدعم لاحقاً مع قرب انتهاء فترة الأشهر الثلاثة الاستثنائية، الشهر المقبل (اتخذ القرار في جلسة مجلس الوزراء التي عقدت مطلع كانون الأول من العام الماضي) لطلبه من مصرف لبنان سداد 35 مليون دولار لزوم شراء الأدوية والمستلزمات، وذلك من حقوق السحب الخاصة. فالمشكل الآتي، المعطوف على تعديل مصرف لبنان سعر الصرف، يفتح الباب على مصراعيه على السؤال الآتي: هل سيبقى الدعم أم لا؟ وهل سنحمل فروقات هذا الدعم؟ مردّ هذه الأسئلة إلى الأجواء المشاعة «والتي تفيد بأن رئيس حكومة تصريف الأعمال لم يعد متحمّساً، أو بتعبير آخر، لم تعد لديه الرغبة في أن يوقّع استثناءات جديدة للدعم، وأن يحرج نفسه مرة أخرى أمام الصندوق»، بحسب المصادر.
من جهة أخرى، تنسحب الأجواء المشاعة على ما يحدث في وزارة الصحة، إذ إن الوزارة هي الأخرى «باتت تصارع في مجال بقاء الدعم أو رفعه». وإن كان من السابق لأوانه، بحسب المصادر، أخذ رأي واضح من وزارة الصحة اليوم «إلا أن قرار المركزي عملياً دونه سيناريو واحد على الأرجح هو أن لا سير في «مغامرة» البقاء على الدعم على أساس سعر صرف 15 ألف ليرة، وهذا يعني أن بقاء الدعم على أساس الصيغة السابقة سيصبح ثلاثة ملايين ونصف مليون دولار وهي قيمة لن تكون قادرة على دعم 10% من الأدوية»… وما تبقى؟ « سيجري تدفيعه عملياً للمرضى».
مع ذلك، ترى المصادر أن من السابق لأوانه السير في أي شيء، فالأولى اليوم انتظار «ما إذا كانت الحكومة ستوافق على تمديد خطة الدعم؟»، قبل الإجابة عما إذا كان «ذلك يناسبنا أو لا يناسبنا؟». مردّ هذين السؤالين أن «أحداً لن يكون قادراً على حمل الكلفة، سواء صحة المرضى أو الصرف من أموال المودعين».
في كلتا الحالتين، كفّة الميزان خاسرة. إذ يقف المرضى على حافة المقصلة بين خيارين، أحلاهما مرّ: الدخول في دوامة دعم جديدة مكلفة والاعتقاد السائد بأنه لن يستفيد منها سوى المستوردين، أو البقاء على سعر فائت يخفّض المبلغ المرصود للدعم إلى أقل من 10%!