تشتد الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية ومعها تشتدّ المعوقات والصعوبات. الصراع الاقليمي الحاصل خلف الحدود والذي لم يعفِ لبنان من أثمانه، إلى مزيد من التصعيد. وها هو تاريخ السابع من آب، موعد صدور قرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، بات على الأبواب، وقد لا يمرّ مرور الكرام.
غطّ وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان في بيروت وطار منها، من دون أن يتضح ما اذا كانت هناك معالم تهدئة في الأفق. تحدث الديبلوماسي بلغة الأميركيين وأحال اللبنانيين إلى صندوق النقد الدولي، مع ما يعني ذلك من شروط سياسية مبطنة تختزنها المفاوضات الصعبة، لا بل شبه المستحيلة مع الصندوق.
ومع ذلك، لا يبدي رئيس الحكومة حسان دياب أي علامات استسلام. هو مدرك تماماً لمدى سوداوية المشهد، لكنه مقتنع أنّ امكانية الاختراق لا تزال متاحة ولو أنّ هناك من ضيّع على الحكومة شهرين من الزمن في مناكفات وسجالات عقيمة تحت عنوان مغالطات الأرقام، ما اضطر صندوق النقد الى التدخل أكثر من مرة لتصويب الأمور والتأكيد أنّ مقاربة الحكومة المالية هي الأقرب إلى الواقع.
المهم، أنّ الجالس على الكرسي الثالث، لا يزال متأملاً، متسلحاً بالكثير من الواقعية وحسن المعرفة بتركيبة الدولة العميقة ومنظومة مصالحها، ما دفعه إلى تعلّم أصول تدوير الزوايا للمواءمة بين نقيضين: الواقع المعقّد الذي تفرضه مصالح القوى السياسية والتي مهما اختلفت في السياسة، فهي قادرة على التفاهم في ما بينها حين يبلغ الأمر حدود مصالحها. وما أكثرها وأعمقها… وبين اقتناعه أنّه مهما بلغت الأزمة مطارح شديدة الخطورة، إلا أنّ امكانية احداث خرق لا تزال واردة، بل لا بدّ منها لتغيير الذهنية التي تحكم الدولة.
ولذا اختار سياسة تدوير الزوايا التي تحمي حكومته من التشظي والتي قد تتيح إحداث بعض الثغرات في جدار الأزمة، خصوصاً وأنّ شركاءه الحكوميين باتوا مقتنعين أنّ هذه الحكومة هي آخر المتوفر، ولا بدّ من التعامل معها بواقعية. فيما هو يبادلهم “بتطويل البال” بالتوازي مع البحث عن صيغ تكون “على قاعدة لا يفنى الديب ولا يموت الغنم”. وقطاع الكهرباء يشكّل نموذجاً في البحث عن حلول غير صدامية، ولكن تخرج القطاع من “شباك” الهدر والفساد.
جبهتا تفاوض وتوتر
في هذه الأثناء، لا تزال خطة التعافي الحكومية بحاجة إلى جرعات دعم كي تستعيد عافيتها فيما المفاوضات مع صندوق النقد مترنحة وقد تكون اقتربت من أمتارها الأخيرة. ولذا يتحضّر رئيس الحكومة ذهنياً ونفسياً لخوض أكثر من معركة على أكثر من اتجاه:
– أولاً على جبهة صندوق النقد. هو مقتنع أنّ المفاوضات لم تبلغ حائطاً مسدوداً ولا يزال احتمال التفاهم وارداً وبنسبة عالية. بالأساس لم يمرّ على هذه المفاوضات أسابيع معدودة فيما المهلة المتعارف عليها في حالات الدول المتعثرة، هي نحو تسعة أشهر. ولذا من غير الجائز الحكم بشكل سلبي على مصير المفاوضات، ولو أنّه كان بالامكان توفير شهرين من الزمن أمضاها اللبنانيون في أخذ وردّ حول الأرقام المالية، وقد أنهت لجنة تقصي الحقائق عملها، ووضعت تقريرها في عهدة رئيس المجلس نبيه بري، ولكن طبعاً من دون أن تضطر الحكومة الى الأخذ بنتائجه.
يذهب رئيس الحكومة أكثر من ذلك، ليشير إلى أنّ نتائج المفاوضات يفترض أن تظهر خلال الأشهر القليلة المقبلة خصوصاً وأنّ الحكومة ماضية ببرنامجها الاصلاحي.
– ثانياً على جبهة التفاوض مع المصارف اللبنانية، وهي قد تكون أصعب وأقسى من تلك الدائرة مع صندوق النقد. عملياً، كل ما حصل خلال الفترة الماضية من مناوشات وقصف متبادل، لم يكن سوى مقدمة لما يمكن أن يحصل بين الحكومة والمصارف ومن وراءها من منظومة سياسية – مالية متضامنة متكافلة. إذ تجنّد المصارف وفق ما ينقل زوار رئيس الحكومة، “لوبياً” ضاغطاً في سبيل الدفاع عن مصالحها، تارة تحت عنوان الأرقام المغلوطة، وطوراً بحجة أنّ الحكومة تسعى إلى افلاس القطاع المصرفي، وأحياناً يصير الهيركات هو البعبع الذي تهدد به المصارف وأحياناً أخرى تطفو الخشية من شطب رساميل المصارف على سطح الماء…
وفي كل مرة ترسل الحكومة من يطمئن المصارف ويهدئ من روعها وينفي الادعاءات المنسوبة اليها. ولكن من دون جدوى. إلا أنّ فتح الحوار المباشر برعاية رئيس الحكومة بعد تأكيده أكثر من مرة أنّ التباين حول الأرقام لا يفسد في الحوار قضية وبالتالي يمكن وضعه جانباً للانتقال إلى لبّ الخلاف: كيفية توزيع الخسائر بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف. لا يتردد رئيس الحكومة، وفق زواره في الإشارة إلى أنّ المصارف كانت ولا تزال شريكة الطبقة السياسية (أكثر من 60% من أسهم المصارف تعود إلى سياسيين)، وبالتالي عليها تحمل مسؤولية تمويلها دولة كانت تسير نحو الافلاس بخطى ثابتة.
ولذا عليها المساهمة في الخطة الانقاذية من باب تحمّل مسؤولية جزء من الخسائر، خصوصاً وأنّ الأرقام تبيّن بوضوح حجم الأرباح التي حققتها، كما ينقل زوار رئيس الحكومة عنه، بنتيجة الفوائد الخيالية المحققة من الدولة اللبنانية جراء كلفة الاستدانة بين العامين 2010 و2018 حيث حصّلت المصارف حوالى 40 مليار دولار!
عملياً، بدأت الاجتماعات المالية بمشاركة المصارف، ولكن حتى الآن لم تقدم هذه الأخيرة مقاربتها لكيفية توزيع الخسائر. كل ما فعلته هو الدفع باتجاه تفاهم الحكومة مع مصرف لبنان وليس معها، بالتوازي مع تأمين السيولة كي تتمكن من العمل من جديد (تقول إنّ مستحقاتها من مصرف لبنان تبلغ نحو 40 مليار دولار). أما السؤال عن نصيبها من الخسائر فترفض الاجابة عليه.
الجديد هو أنّ شركة “لازارد” فجرت الخلاف كونها طرحت أكثر من صيغة لتحميل المصارف جزءاً من الخسائر، ومنها شطب بعض الأرباح المحققة بفعل الفوائد الخيالية ومنها الـbail in وقد رفضت المصارف كلا الطرحين، وفق المطلعين على موقف رئيس الحكومة.
لا يتردد دياب في القول صراحة إنّ المركب يغرق بمن فيه ولن تتمكن المصارف من انقاذ نفسها اذا لم تساعد الحكومة على وضع خطة تعافٍ مشتركة لتكون شريكة في تحمل الخسائر. يتحدث عن الكثير من الأدوات المالية التي بالإمكان اللجوء اليها لسدّ الفجوة المالية، وعن استعداد الحكومة للتوصل الى مقاربة مشتركة مع المصارف لكيفية توزيع الخسائر، لكنّ الحكومة غير مستعدة لبيع أصول الدولة مهما بلغ الضغط. يمكن رفد الصندوق السيادي ببعض عائدات الأصول أو استثمار بعض العقارات. لكن البيع أمر مستحيل لن توقّع عليه الحكومة.