لا يتميّز القضاة عن سائر العاملين في القطاع العام، سوى بأنهم ذوو نفوذ أقوى من غيرهم داخل بنية السلطة، ما أتاح لهم الفوز بامتياز تصحيح أجورهم وفق آلية نقدية تقضي باعتبار كل 1500 ليرة تعادل 8000 ليرة، أي مضاعفة رواتبهم 5.3 مرات. وعدا عما أثارته هذه الخطوة من سخط لدى الأساتذة والموظفين الإداريين والعسكريين وغيرهم من موظفي القطاع العام، فإن المشكلة الجوهرية تكمن في تعاظم هيمنة السياسة النقدية وحصريتها في إدارة الأزمة رغم أن هذه السياسة كانت سبباً أساسياً في انفجار الأزمة
في الاجتماع الذي عُقد في مطلع الشهر الجاري في السراي الحكومي برئاسة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وبحضور وزيري المال يوسف الخليل، والعمل مصطفى بيرم، والذي خصص لمناقشة مطالب القطاع العام المضرب منذ نحو شهر، وعلى رأسها تحويل رواتبهم وفق سعر صرف يبلغ 8000 ليرة، تذرّع ميقاتي والخليل بالتضخّم الذي يمكن أن ينتج من تصحيح الأجور بهذه الطريقة، لرفض الاقتراح. لكن، في موازاة هذا النقاش شبه العلني، كان هناك مسار متكتّم يجري بين أروقة رئاسة الحكومة، وحاكمية مصرف لبنان، والجسم القضائي، وهو يعبّر عن رغبة جامحة في تصحيح أجور القضاة بأي طريقة متاحة حتى لو كان التضخّم أساسها. خلص هذا المسار إلى طريقة سهلة وسريعة ومجرّبة في العقود الماضية، قضت باستعمال السياسة النقدية في سبيل تحقيق أهداف مشبوهة، أي أن يطلب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، من المصارف، تحويل رواتب القضاة الذين ترد أسماؤهم في لوائح مقدّمة من مجلس القضاء الأعلى، إلى الدولار وفق سعر 1500 ليرة، وأن يتم تسديدها على سعر صرف التعميم 151، أي بقيمة 8000 ليرة لكل دولار.
بهذه البساطة ومن دون أي اعتراض حول مسار التضخّم ونتائج استسهال طباعة النقود، تقرّر زيادة أجور القضاة. وحتى الآن، لم تتضح الرواية الدقيقة للاتصالات التي أفضت إلى منح القضاة امتيازاً كهذا، إنما تردّدت بعض المعطيات عن أن زوجات بعض القضاة يعملون في مصرف لبنان، وأنهنّ عرضن الأمر على الحاكم الذي وافق فوراً. عندها جرى تواصل ما بين أعضاء مجلس القضاء الأعلى وبين الحاكم للاتفاق على التفاصيل. قيل أيضاً إن النائب العام المالي علي إبراهيم هو من فاتح سلامة بهذا الأمر، وأنه طلب تفويضاً خطياً من مجلس القضاء الأعلى لإنجاز المهمة إنما لم يحصل عليه، ما دفعه إلى الاتفاق مع عدد من القضاة إلى زيارة سلامة والاتفاق معه…
بمعزل عن التفاصيل، فالأمر حصل سواء على يد مجلس القضاء الأعلى، أم على يد النائب العام المالي، أم على يد مجموعة من زوجات القضاة العاملين في مصرف لبنان. حصل الأمر من دون أي اعتراض فعلي من الجسم القضائي على استملاك هذا الامتياز رغم إدراك القضاة للمفاعيل التي ينتجها مفهوم الامتياز. صحيح أنه برزت بعض الاعتراضات المتكتّمة، من قضاة متقاعدين، أو من قضاة الشرع الذين لم تشملهم الاستفادة، أو من قضاة رأوا فيها «رشوة» شاملة من مشتبه فيه محلياً وخارجياً بتبييض الأموال والاختلاس وهدر المال العام، إنما لم يجرؤ أحد على الاعتراض العلني. كما أن القضاء، سواء بأجهزته أو برؤوسه الكثيرة، لم يردّ على كل ما قيل حول هذه «الرشوة»، بل بدوا جميعاً كأنهم غير مهتمين «ومن بعدهم الطوفان».
إذاً، المفاعيل التضخمية لتصحيح الأجور تصبح بلا قيمة إذا قام بها الحاكم رياض سلامة عبر آليات غير تقليدية. لا بل تكاد تصبح حقّاً مكتسباً لفئة تعتبر نفسها سلطة مستقلّة، بينما بنتيجتها سيجري تحييد ولاءها بالجملة. فهذه الآلية تلغي كل ما قيل عن الإصلاح، وتقضي على أي فرصة في المحاسبة إذا كانت متوافرة أصلاً داخل بنية السلطة. لا بل تأتي الخطوة تكريساً لاستعادة السياسة النقدية هيمنتها على الحياة العامة وتعظيم هذه الهيمنة أكثر مما كانت عليه في العقود الماضية. ففي السابق كانت آلية تصحيح الأجور تختزل صراعاً اجتماعياً ليس بالضرورة أن ينتهي لمصلحة الفئات العاملة، إنما كان يخضع عملية التصحيح لنقاش مالي ونقدي وقانوني وشعبي… إنما اليوم، ومن دون أي صراع، أصبح المسار مرتبطاً بما يقرّره الحاكم وحده. والحاكم هو ما يمثّل من قوى السلطة وليس شخصه فقط. فهو وحده يقرّر أن يطبع الأموال، وأن يشرف على توزيعها من دون أي اعتبار لمفاعيلها والتشوّهات الاقتصادية والاجتماعية التي تخلقها.
واللافت أن سلامة رفض قبل سنوات إقرار سلسلة الرتب والرواتب، بسبب ما اعتبره يومها، مفاعيل تضخميّة. وإصراره على الرفض ترك أثراً في أزلام السلطة التافهين الذين ما زالوا لغاية اليوم، يربطون الانهيار والأزمة، بإقرار السلسلة. لكن ها هو سلامة، الذي خلق موجات تضخّم هائلة في السنوات الثلاث الماضية من خلال سياسة إطفاء الخسائر التي يعتمدها، يبادر اليوم، مجدداً، إلى خلق موجة تضخّم جديدة غير محسوبة النتائج. صحيح ان القرار الراهن مخصّص للقضاة فقط، لكن لا شيئ يمنع من أن يشمل فئات أخرى مستقبلاً. ففي السابق، مُنح القضاء تصحيحاً للأجور، ما فجّر موجة اعتراضات في القطاع العام مطالبة بتصحيح أجور سائر العاملين فيه. يومها استمرّت المفاوضات لسنوات ولم يقرّ التصحيح إلا مع زيادات ضريبية أدرجت في الموازنة. أما اليوم، فالقرار، يستجرّ مطالب محقّة للقطاع العام المتوقف عن العمل منذ نحو شهر، لكن وسيلة التعامل مع هذه الحقوق مختلفة جداً وغير منظمة وغير مدروسة ومعزولة عن أي إجراءات شاملة. وهذه المطالب تأتي أيضاً في ظل أزمة غير مسبوقة وتضخّم كبير يضرب اقتصاد لبنان من الداخل ومن الخارج أيضاً. حتى أن قوى السلطة حاولت أن تخفّف من وطأة هذه المطالب قبل الانتخابات النيابية عبر ما سمّي «المساعدة الاجتماعية»، إلا أن الأمر انتهى سريعاً بتآكل هذه المساعدة بفعل تسارع التضخّم.
هنا تكمن المشكلة. فالمصدر الأساسي لموجات التضخّم التي ضربت لبنان في السنوات الثلاث الأخيرة، يكمن في آليات إطفاء خسائر القطاع المالي التي اتبعها حاكم مصرف لبنان منفرداً أو مع مجلسه المركزي. فهذه الخسائر المتراكمة في ميزانيات مصرف لبنان والمصارف، تقدر بأكثر من 70 مليار دولار، ويتم تغطيتها منذ ثلاث سنوات عبر ضخّ النقود في السوق، ما أدى إلى ارتفاع جنوني في سعر صرف الدولار مقابل الليرة، وبات التضخّم يتغذّى على هذا الارتفاع. وفي المحصلة سُجن اقتصاد لبنان داخل حلقة لا متناهية من ثلاثية: التضخم، ضخّ النقود، وسعر الصرف.
هذه كانت نتيجة معالجة الأزمة بالسياسات النقدية. وهذه السياسات كانت هي السبب الأساسي في وجود الأزمة أصلاً. لذا، فإن عودة الهيمنة النقدية بوقاحة وقيامها بغزو الأجور، يعيد النقاش إلى أصله. ففي السابق كان مصرف لبنان يقرض الدولة بدلاً من المصارف بفوائد متدنية، ثم يقترض من المصارف بفوائد أعلى. وبهذه العملية كان يخفي خسائر الخزينة في ميزانيته، ولم يكن ينشر ميزان الأرباح والخسائر كما ينص قانون النقد والتسليف، ما أخفى الخسائر بشكل نهائي. وهو اليوم، من خلال تصحيح أجور القضاة بالطريقة التي طبقها، يقوم بعملية مماثلة. فبدلاً من أن تظهر أعباء تصحيح الرواتب والأجور في الخزينة العامة في باب النفقات، ستظهر على شكل خسائر في ميزانية مصرف لبنان، وربما تكون خسائر مؤجلة لسنوات مقبلة. فالفرق بين 1500 ليرة و8000 ليرة سيتحمّله مصرف لبنان عبر طباعة النقود. ما يعني أنه سيتم تحميل المجتمع كلّه، عبر التضخّم الذي يعد أكثر ضريبة سلبية تجاه أي مجتمع، أعباء تصحيح أجور فئة واحدة، هي القضاة، ضمن أهداف رسمها شخص واحد هو رياض سلامة. فمن اللافت أيضاً، أن هذا الأمر لم يُعرض على المجلس المركزي لمصرف لبنان، وإن كان المجلس لن يعترض لأنه مؤلف من ممثلين للطوائف حاضرين بقوّة لمساندة قرارات الحاكم، لكن المجلس لم يقم بتغطية هذه الخسائر التي سيتم تحميلها لميزانية مصرف لبنان بشكل غير قانوني. وهذه واحدة من هندسات مشابهة نفذها مصرف لبنان في العقود الماضية، وحققت للمصارف أرباحاً طائلة جرى توزيعها أو رسملتها.
إلى ذلك، فإن القرار يثير مسألة الارتياب المشروع. ففي ظل عدم صدور أي تعميم بهذا الخصوص، ومن دون أن يتم فتح باب الخيار للقضاة الراغبين بالاستفادة أو الرافضين، ألزم مصرف لبنان المصارف بتسديد رواتب القضاة بهذه الطريقة، وهذا سبب كاف لخلق ارتياب مشروع جماعي بكل دعوى أو إجراء قضائي يكون أحد طرفيه أي جهة مصرفية أو نقدية. كما أن هذا الإجراء ينطوي على تهرب من ضريبة الرواتب، كون المكلّف يصرّح ويسدّد الضريبة على أساس الراتب الذي تصرّح عنه الخزينة.
عملياً يمكن القول: «الشباب مرتاحين كتير». ارتياح قوى السلطة عائد لكونها استعادت قدرتها على لجم الجماهير، وهو ما ظهر بوضوح في الانتخابات النيابية الأخيرة. فبفضل مصرف لبنان وسلوكه النقدي في ضخّ النقود وامتصاصها عبر أسعار صرف متعدّدة وبتعاميم مختلفة، استطاعت هذه القوى امتصاص كل الغضب وفرضت على الجميع تجرّع الخسائر لمرّات عدّة مضت، ولمرات عدّة مقبلة أيضاً. خطوة دولرة رواتب القضاة تنبئ بأن الآتي من الأزمة أعظم. الحاكم يقول لنا أنه احكم سيطرته على القضاء بعدما اصبح قدرنا!