«سلامة وشركاه» في خدمة المصارف

يطبّق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة قانون النقد والتسليف بشكل انتقائي واستنسابي. فمن بين المهمات الأساسية التي نصّت عليها المادة 70، يأتي «الحفاظ على سلامة أوضاع النظام المصرفي» ثالثاً في الترتيب بعد «الحفاظ على سلامة النقد اللبناني» و«الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي». إلا أن سلامة يدمّر النقد والاقتصاد من أجل المصارف ويركّز جهوده على عمليات تجميل محاسبية لإخفاء خسائر المصارف، متعامياً عن مؤشرات إفلاسها وعن الانخفاض الحقيقي في قيمة الليرة

على افتراض صحة ما قاله حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في مقابلته التلفزيونية الأخيرة عن أن المصارف أودعت في مصرف لبنان 70 مليار دولار، فإنه يكون قد أقرّ وبشكل واضح لا لبس فيه بأن 42% من هذه الإيداعات تبخّر ربطاً بما يعلنه عن حجم موجوداته بالعملة الأجنبية والتي كانت تبلغ 30 مليار دولار في نهاية تشرين الثاني 2019، أي من دون احتساب نتائج كانون الأول. وليس في هذا التحليل أي مبالغة، لأنه في ظل القيود على التحويل والسحب القائمة حالياً، والتي فرضتها المصارف بتعليمات شفهية وبالتنسيق مع مصرف لبنان، فإن تدفقات الدولار إلى لبنان ستكون شبه معدومة، باستثناء تحويلات بعض المغتربين لتمويل الحاجات الضرورية الأساسية لأسرهم في لبنان، أي لن يكون بإمكان مصرف لبنان إعادة تكوين احتياطاته بالعملات الأجنبية أو زيادتها كما كان يفعل في السنوات الماضية عبر امتصاص الدولارات الآتية من الخارج، علماً بأن الاحتياطات المعلنة تتضمن نحو 19 مليار دولار هي عبارة عن احتياطات الزامية وضعتها المصارف لديه من أجل تغطية أي خسائر يتعرّض لها المودعون، أي أنه لا يمكن المساس بها تحت أي ظرف وتحت أي ضغط إلا لتسديد قيمة الودائع.
انطلاقاً من هذا الأمر، تعدّ المصارف مفلسة. رغم ذلك، يسعى سلامة إلى إبقائها على قيد الحياة. ربما ستكون لديه القدرة على إبقائها في مرحلة ما بين الحياة والموت. حالة تشبه ما أصاب المصارف اليابانية قبل عشرات السنوات حين انتشر وصف «المصارف الزومبي». في هذه الحالة، تواصل المصارف دفع الودائع ضمن القيود المفروضة والتي بلغت أدنى مستوى لها، أي 200 دولار أسبوعياً لكل وديعة، ما يمدّ بعمرها لفترة زمنية طويلة قبل إعلان الإفلاس، لكن يصعب عليها الإقراض أو زيادة الودائع الصافية (أي تدفقات الودائع من دون احتساب الفوائد المتراكمة).
أما الأمر الاساسي الذي يدفع المصارف إلى إشهار الإفلاس، فهو المعايير المحاسبية التي وضعت خصيصاً بعد الأزمة المالية العالمية في نهاية 2008. وعندما كان سلامة يصنَّف «إلهاً» استحقّ جوائز عديدة نظراً إلى عبقريته في إدارة النقد اللبناني والتضخّم والنموّ الاقتصادي وما شابه من أفعال لُصِقت به، حاول التباهي بأنه كان سباقاً لتطبيق المعايير الدولية. وفي 7 تشرين الثاني 2017، أصدر سلامة بالتعاون مع «شركاه» في المجلس المركزي لمصرف لبنان (يتألف بشكل أساسي من نواب الحاكم الذين انتهت ولايتهم قبل بضعة أشهر: محمد بعاصيري، رائد شرف الدين، سعد العنداري وهاروت صاموئيليان)، القرار الأساسي 12713 الذي فرض على المصارف والمؤسسات المالية، ابتداء من تاريخ 1/1/2018، تطبيق المعيار الدولي للتقارير المالية الرقم 9 (IFRS9) المتعلق بالأدوات المالية والتعديلات المتوجب تطبيقها بنتيجته على «المعيار الدولي للتقارير المالية الرقم 7 المتعلق بالإفصاحات عن الأدوات المالية وذلك على مستوى البيانات المالية الإفرادية والمجمّعة…». وحدّدت المادة السادسة من القرار ما يتوجب على المصارف نتيجة تطبيق هذا المعيار: «تكوين المؤونات على أساس الخسائر الائتمانية المتوقعة»، وذلك بحسب المادة السابعة «بعد إجراء تقييم دوري فصلي على الأقل وكلّما دعت الحاجة، لمخاطر الائتمان لكل نوع من الأصول المالية داخل الميزانية والالتزامات خارجها وتصنيفها ضمن ثلاثة فئات:
ــــ الفئة الأولى (Stage 1): الأصول المالية داخل الميزانية والالتزامات المالية خارجها التي لم تشهد ارتفاعاً ملحوظاً في مخاطر الائتمان.
ــــ الفئة الثانية (Stage 2): الأصول المالية… التي شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في مخاطر الائتمان.
ــــ الفئة الثالثة (Stage 3): الأصول المالية… غير المنتجة والتي شهدت تدنّياً في قيمتها والتي تشمل الديون المصنّفة دون العادي ومشكوك بتحصيلها ورديئة وفقاً للقرار 7159.
إذاً، هناك ثلاث فئات من التصنيف. الغرض المباشر منه بحسب المادة 11 من القرار المذكور «احتساب الخسائر الائتمانية المتوقعة وتحديد المؤونات بما يتوافق مع متطلبات هذا المعيار»، وهذا الأمر يتعلق باحتساب سيولة المصارف ونسبة الملاءة لديها وفقاً للقرار الأساسي 6939 الذي ينصّ في مادته الـ 11 مكرّر على الآتي: «عند احتساب نسبة الملاءة، يتوجب على المصارف مقارنة رصيد المؤونات المتوفّر على محفظة الأصول المالية داخل الميزانية والالتزامات خارجها التي تنطوي على مخاطر ائتمان مع الخسائر المتوقعة المحتسبة نظامياً وفقاً للآلية الآتية: في ما خصّ الأصول المصنّفة في المرحلة الأولى والثانية، يعتمد الملحق الرقم 6 المفرق بالقرار». والملحق الرقم 6 عنوانه «النسب المطبقة لاحتساب الخسائر المتوقعة نظامياً: 0.10% من التوظيفات لدى مصرف لبنان بالعملات الأجنبية».
ببساطة، إن مبلغ الـ 70 مليار دولار الموظف من المصارف لدى مصرف لبنان، يرتّب عليها خسائر نظامية تبلغ 7 مليارات دولار. وهذا الأمر محتسب على أساس أن وزن المخاطر المعتمد لاحتساب خسائر توظيفات المصارف بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان هو 50% فقط عندما يكون تصنيف لبنان في مستوى الـ(C). هذه النسبة كانت 100% قبل بضعة أشهر، ثم خفضها مصرف لبنان لإخفاء الخسائر، إلا أنه في ظل تصنيف لبنان ضمن مستوى «الإفلاس»، لا يمكن مصرف لبنان مخالفة قواعد «بازل 3» التي تفرض عليه احتساب وزن مخاطر توظيفات المصارف بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان بنسبة 150%.
حاول سلامة استباق هذا الأمر، طالباً من المصارف زيادة رساميلها عبر مقدمات نقدية بالدولار بنسبة 10% قبل نهاية 2019 و10% قبل نهاية حزيران 2020، لكنه فوجئ بأن هناك ستة مصارف كبيرة لم تتمكن من الإيفاء بالجزء الأول من زيادة الرساميل، أما المفاجأة الأكبر، فكانت أن المقدمات النقدية التي ضخّها المساهمون في رساميل المصارف التي نفّذت الزيادة، جاءت من ودائعها في المصارف المحلية خلافاً لرهان سلامة على استقدام دولارات طازجة من الخارج، علّها تسهم في تعزيز احتياطاته بالعملات الأجنبية.

مبلغ الـ 70 مليار دولار الذي توظّفه المصارف لدى مصرف لبنان يرتّب خسائر نظامية بـ7 مليارات دولار

أمام هذه الوقائع، صار الأمل الوحيد لعدم إشهار إفلاس أي مصرف يكمن في التلاعب بالقيود المحاسبية. والتلاعب يعني فرض عمليات تجميل محاسبية من نوع خفض نسب الملاءة المالية. قبل بضعة أشهر، كانت نسبة الملاءة على الأموال الخاصة الإجمالية محدّدة بـ 15%، وكان سلامة وغيره يتباهون بأنها أعلى من المعدلات المطلوبة في إطار تطبيق معايير «بازل 3»، لكنه في أيلول 2019، أي قبل اندلاع الأزمة، اضطر سلامة الى أن يخفضها إلى 12%، وهناك اقتراح اليوم بأن يتم خفضها إلى 10.5% وهو قيد الدرس بين جمعية المصارف ومصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف. الهدف من الأمر تغطية ما أمكن من مؤشرات الخسائر اللاحقة بالمصارف، إذ إن زيادة الرساميل عبر مقدمات نقدية، وخفض معدلات الملاءة يغطّيان جزءاً من الخسائر المتراكمة في الميزانيات. فإلى جانب خسائر توظيفات المصارف في مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، توظّف المصارف نحو 15 مليار دولار في سندات الخزينة بالعملات الأجنبية (يوروبوندز) وهذه حققت في السنة الماضية خسارة بقيمة تفوق 8 مليارات دولار، ولديها أيضاً الخسائر المتوقعة على قروض القطاع الخاص التي تقدّر بأكثر من 20% من محفظة التسليفات للمقيمين والتي بلغت 46.3 مليار دولار في نهاية تشرين الأول 2019، أي أن الخسائر المتوقعة تفوق 9 مليارات دولار.
في مقابل كل هذه الخسائر، تبلغ قيمة رساميل المصارف 20 مليار دولار. وليس لدى مصرف لبنان أموال كافية ليردّ ودائع الناس بالدولار، إذ على افتراض أنه سيخصّص الـ 30 مليار دولار بكاملها لدفع الودائع، لن يكون قادراً على ردّ الـ 40 مليار دولار الباقية والتي تبخّرت. وعلى افتراض أن مصرف لبنان مجبر على تمويل استيراد السلع الأساسية بما توازي قيمته 9 مليارات دولار (منها 4.5 مليارات دولار لاستيراد النفط والقمح والدواء والمستلزمات الطبية) من أصل سلّة استيراد تبلغ 20 ملياراً، فإنه لن يكون قادراً على ردّ 49 مليار دولار، وإذا قرّر أن يدفع عن الدولة استحقاقات الدين بالعملات الأجنبية البالغة 4.7 مليارات دولار، فإنه لن يكون قادراً على ردّ 53.7 مليار دولار، أي أن قدرته على ردّ الودائع لا تزيد على 23% من أصل قيمتها. كل دولار لدى مصرف لبنان يوازي 23 سنتاً بسعر اليوم.
هذه المعادلة تأتي من دون درس الخسائر المترتبة على مصرف لبنان نفسه بسبب توظيفاته بالعملات الأجنبية والخسائر المتراكمة، إذ لا يجب أن نغفل أن مصرف لبنان يحمل 5.7 مليارات دولار سندات يوروبوندز وأنه باع الكثير من السندات التي كان يحملها بأسعار بخسة للحصول على السيولة، فضلاً عن أن السيولة الأساسية التي يمكن الرهان في احتياطاته بالعملات الأجنبية هي توظيفاته بالسندات الأجنبية المصنّفة ضمن مستوى الـ(A) التي لا يعلم قيمتها أحد حتى لا يتم تقدير الخسائر المتراكمة.

هل سيوافق وزير المال الجديد على تبديد احتياطات مصرف لبنان على الديون؟

عملياً، يقرّ سلامة بأن سعر صرف الليرة منخفض لدى الصرافين، وأن دولاراته لا تموّل إلا المشتقات النفطية واستيراد القمح والدواء والمستلزمات الطبية (أخيراً) بقيمة تبلغ 4.5 مليارات دولار من اصل فاتورة استيراد تبلغ 20 مليار دولار، ولكنه يعطي الأولوية لدفع الديون من أجل إفادة المصارف وحاملي الدين الأجانب. الأسوأ من ذلك، أن وزير المال المعيّن حديثاً غازي وزني أقرّ لوزير العمل كميل أبو سليمان بأن «حاكم مصرف لبنان يريد دفع استحقاق آذار 2020 الذي تبلغ قيمته 1.2 مليار دولار»، وهذا الإقرار بحدّ ذاته يثير التساؤل من وزير اختصاصي: هل إصدار الخزينة ملك مصرف لبنان أم وزارة المال للتصرّف به وتقرير الدفع من عدمه؟ وهل سيوافق وزير المال الجديد على تبديد احتياطات مصرف لبنان على الديون خدمة لمن؟ هل هذه النصيحة أتت من مستشاره الجديد مروان مخايل الآتي من «بلوم بنك»، علماً بأنه كان يعمل سابقاً مستشاراً لسامي حداد أيام كان وزيراً للاقتصاد؟

غياب حمود والعازار
تعقد لجنة الرقابة على المصارف اجتماعات مع المصارف التي لم تتمكن من زيادة رساميلها عبر مقدمات نقدية بالدولار، إلا أنه كان لافتاً أن رئيس اللجنة سمير حمود وعضو اللجنة سامي العازار يرفضان حضور هذه الاجتماعات التي تعدّ مهمة جداً نظراً إلى الدور المترتّب على اللجنة في معالجة المشاكل الناشئة لدى المصرف.

صلاحيات استثنائية مقابل ماذا؟
بما أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة طلب من وزير المال صلاحيات استثنائية، فمن المفيد تذكيره بما تنصّ عليه المادة 72 من قانون النقد والتسليف التي تمنحه صلاحية أن «يقترح على الحكومة التدابير التي يرى أن من شأنها التأثير المفيد على ميزان المدفوعات وحركة الأسعار والمالية العامة وعلى النمو الاقتصادي بصورة عامة»، إلا أن سلامة يريد الصلاحيات لنفسه بغطاء سياسي وتشريعي من مجلس النواب من دون أن تعرف وجهة استعمال هذه الصلاحيات ورغم أن المادة 70 أعطته صلاحيات واسعة لا حدود لها، وهي تنصّ على الآتي: إن مهمة مصرف لبنان العامة هي المحافظة على النقد لتأمين أساس نموّ اقتصادي واجتماعي دائم وتتضمن بشكل خاص:
ــــ المحافظة على سلامة النقد اللبناني.
ــــ المحافظة على الاستقرار الاقتصادي.
ــــ المحافظة على سلامة أوضاع النظام المصرفي.
ــــ تطوير السوق النقدية والمالية.
يمارس المصرف لهذه الغاية الصلاحيات المعطاة له بموجب هذا القانون.

مصدرمحمد وهبة - الأخبار
المادة السابقة“إنتفاضة صناعية”… فما هو سيناريو دعم “المركزي”؟
المقالة القادمةالليرة السورية تستعيد بعض خسائرها