عندما يشير التقرير الصادر عن ديوان المحاسبة في شباط الماضي إلى أن قيمة سلف الخزينة غير المسددة منذ العام 1995 حتى نهاية 2018، بلغت 7991 مليار ليرة، أي ما يعادل 5.5 مليارات دولار، فإن ذلك يمكن أن يعطي صورة سريعة عن واحد من الأسباب التي أدت إلى الانهيار: أداء السلطة. الحكومات المتعاقبة، ومن خلفها مجلس النواب، لم تكن تتعامل مع المواد الدستورية والقانونية بوصفها واجبة التطبيق.
أين ذهبت هذه الأموال؟ ولماذا لم تسدد؟ ولماذا لم تعمد وزارة المالية، المسؤولة قانوناً عن ملاحقة هذه السلف، إلى استردادها أو على الأقل إلى القيام بالإجراءات القانونية اللازمة لإنهاء هذه الحالة الشاذة؟ الأجوبة عديدة، لكن أبرزها أن كل مرسوم أو قرار نصّ على إعطاء سلفة لأي جهة، كان يتضمن في طيّاته تواطؤاً وإقراراً مسبقاً بأن ما يسمى سلفة ليس سوى إنفاق فعلي لن تسترده الخزينة.
النهج الثابت للسلطة كان التركيز على إخفاء المعلومات الحقيقية عن الداخل والخارج على السواء. ولذلك، فإن الكثير من النفقات العامة دُفعت عبر سلف خزينة، بدلاً من إدراجها في اعتمادات الموازنة. من فعل ذلك أراد إظهار قيمة مزيفة للعجز. فالسلف لا تدخل ضمن الإنفاق العام. وهذا أثّر على النتيجة النهائية للدورة المالية وزاد قيمة العجز التراكمي.
التقرير الذي أعدّته الغرفة المختصة في الديوان برئاسة القاضية نيللي أبي يونس، وقدم رئيس الديوان محمد بدران نسخة منه إلى رئيس الجمهورية، هو شهادة رسمية للسلطة، منذ التسعينيات حتى اليوم، منذ رفيق الحريري حتى سعد الحريري، تثبت أن الحكم بالنسبة إليها ليس سوى وسيلة للتربّح والمحاصصة والغش والإيحاء بأن الأمور تحت السيطرة. وفي سبيل ذلك لم تقم سوى بانتهاك القوانين والتلاعب بمالية الدولة، والاعتداء على كل مبادئ المحاسبة العمومية وإصدار موازنات شكلية، إن أصدرتها، لا تُعبّر عن حقيقة الوضع المالي.
تشير المادة 203 من قانون المحاسبة العمومية إلى أن سلفات الخزينة هي إمدادات تعطى من موجودات هذه الخزينة لغايات محددة حصراً:
• تموين مستودعات الإدارات العامة بلوازم مشتركة بين أكثر من إدارة واحدة.
• شراء مواد قابلة للتخزين معدّة للاستعمال في سنة مالية جارية أو لاحقة.
• تغذية صناديق المؤسسات العامة والبلديات وكذلك الصناديق المستقلة المنشأة بقانون.
في النتيجة، فإن السلفات التي أعطيت لغير الغايات المحددة قانوناً، يمكن توزيعها بحسب التالي:
• سلفات لتغطية رواتب وأجور وتعويضات، كما حصل مع وزارة الإعلام التي حصلت على سلف خزينة عديدة لدفع تعويضات الصرف من الخدمة للعاملين في تلفزيون لبنان، حيث نصت هذه المراسيم على أن يتم تسديد السلفات إما نقداً أو من اعتماد يلحظ في الموازنة.
• إعطاء سلفات خزينة لتغطية نفقات عامة: لأن الموازنة لم تقر منذ العام ٢٠٠٥ (حتى العام ٢٠١٧)، اصطدمت السلطة في العام ٢٠١٠، بعدم القدرة على الاستمرار بالصرف على القاعدة الاثني عشرية (المخالفة للقانون)، بسبب ازدياد حجم الإنفاق.
• إعطاء سلفات خزينة لتغطية تعويضات ومستحقات: وهو ما حصل، على سبيل المثال في العام 2007، عندما أعطيت وزارة العدل سلفة خزينة بقيمة 7.5 مليارات ليرة لتسديد نفقات المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري، أو السلفة التي أعطيت لوزارة الاقتصاد في العام 2016، بقيمة 15 مليار ليرة، لغاية دفع تعويضات، على أن تسدد من اعتمادات تلحظ في الموازنة، لكنها لم تسدد منها سوى 4 مليارات ليرة.
كل الخيارات التي اعتمدت مخالفة للقانون ولشروط إعطاء السلف وتحديد طرق تسديدها. وبالتالي، فإن الإصرار على هذه المخالفات أدى إلى ابتداع وسائل غير قانونية لتبرير إعطاء السلف لمن لا تنطبق عليهم الشروط القانونية.