سبعة أشهر مرّت منذ انتهاء ولاية الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة، ومن ثم استلام “القيادة الجديدة” في المصرف –كما باتت تُعرّف في وسائل الإعلام- مهامها. في الشكل، وبخلاف التوصيف الإعلامي المعتمد، لم تحمل هذه القيادة أي جديد يُذكر على مستوى الوجوه والأسماء. إذ تشكّلت هذه القيادة من نوّاب الحاكم الذين عيّنهم مجلس الوزراء في حزيران 2020، أي قبل نحو ثلاث سنوات من انتهاء ولاية سلامة.
غير أنّ “الجديد” الذي يفترض الإشارة إليه وتحليله، كان السياسة النقديّة التي حملها هؤلاء بعد رحيل سلامة. فهذه السياسة تم تسويقها بوصفها البديل المختلف عن السياسة النقديّة التي اعتمدها سلامة قبل رحيله، والتي كانت فعليًا سياسة نوّاب الحاكم أنفسهم أيضًا، بوصفهم أعضاء مسؤولين داخل المجلس المركزي للمصرف.
إيجابيّات محدودة.. ولكن!
في تقييم السياسة النقديّة الجديدة، يمكن أن نسجّل للحاكم بالإنابة ونوّابه القليل من الإيجابيّات المحدودة، وأبرزها وقف بعض الإجراءات التي كانت تصب في سياق شراء الوقت وتأجيل الإصلاحات، من قبل مجلسي الوزراء والنوّاب. هذا تحديدًا ما ينطبق على المقرّرات المرتبطة بوقف أسعار الصرف المتعدّدة المعتمدة للسحوبات والتصريح عن الميزانيّات المصرفيّة، أو الحد من الإنفاق العبثي وغير المحسوب من الاحتياطات.
لكن في المقابل، ثمّة أسئلة جديّة حول جدوى أو استدامة، أو حتّى أهداف وشفافيّة، بعض إجراءات السياسة النقديّة “الجديدة”، التي ذهب بعض المنتقدين إلى وصفها بـ”الاستقرار المزيّف”. كما بات هناك أسئلة كبيرة حول سرّ تملّص “القيادة الجديدة” من بعض الخطوات المنتظرة منها، وعن تأثير بعض المرجعيّات السياسيّة في هذا السياق.
أحجية تزايد الاحتياطات وسعر الصرف المستقر
درّة تاج السياسة النقديّة باتت تتمثّل اليوم في تمكّنها من تحقيق هدفين مزدوجين: زيادة الاحتياطات النقديّة بالعملات الأجنبيّة، والحفاظ على سعر صرف مستقر لليرة اللبنانيّة. وبلغة الأرقام، يمكن الإشارة إلى أنّ احتياطات المصرف المركزي قد ارتفعت حتّى منتصف شهر شباط الماضي بأكثر من 880 مليون دولار أميركي، مقارنة ببداية شهر آب الماضي، أي في لحظة استلام الحاكم بالإنابة ونوّابه لمهامهم. أمّا سعر صرف الليرة، فظلّ خلال الفترة نفسها مستقرًّا عند مستويات تتراوح بين 88 و89 ألف ليرة لبنانيّة مقابل الدولار الواحد.
هذا المشهد، يدفع قارئ ميزانيّة مصرف لبنان النصف شهريّة إلى طرح سؤال بديهي: كيف حقّق مصرف لبنان هذه الزيادة في الاحتياطات، من دون المس باستقرار سعر الصرف؟ وعلى حساب أي أولويّة أخرى؟
قد يكون الجواب العفوي والطبيعي هو ذلك الذي يؤشّر له معظم الخبراء الاقتصاديين اليوم، والذي يربط هذه الزيادة في الاحتياطات بعمليّات مصرف لبنان المفتوحة في السوق، أي بعمليّات شراء الدولار (أو بيع الليرة كما يفضّل الحاكم بالإنابة تسميتها)، من الصيارفة في السوق السوداء. وهذه الإجابة تفترض طبعًا وجود تدفّق مستمر وكبير للدولارات إلى السوق السوداء، وهو ما قد يسمح لمصرف لبنان بامتصاص فائض الدولارات من دون التأثير على توازنات العرض والطلب.
غير أنّ هذه الإجابة وحدها لا تكفي لتفسير ما يجري، أو بالأحرى: لا تكفي لشرح الجهة التي تتحمّل أثر هذه السياسة النقديّة. فشراء الدولارات من السوق الموازية، يجب أن يؤدّي بديهيّة لضخ قيمة موازية من الليرات في السوق، وهو ما يفترض أن ينعكس في زيادة كبيرة –وموازية- بالكتلة النقديّة المتداولة بالعملة المحليّة. ومن المعلوم أنّ تطوّر من هذا النوع كان سيفضي أيضًا إلى الضغط بشكل سلبي على قيمة الليرة في السوق.
ميزانيّة مصرف لبنان لا تُظهر ذلك أبدًا، بل على العكس تمامًا: فبحلول منتصف شباط كان مصرف لبنان قد امتصّ أكثر من ربع الكتلة النقديّة المتداولة في السوق، مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي. وبذلك، نحن أمام أحجية تضعنا في مواجهة احتمالين: إمّا أن مصرف لبنان قام بإجراء ما (وبكلفة ما أيضًا!) كي لا تنعكس عمليّات شراء الدولار من السوق بزيادة في حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة، أو أنّ مصدر الزيادة في احتياطات العملات الأجنبيّة في مصرف لبنان لم يكن عمليّات شراء الدولار من السوق.
وأغلب الظن، يكمن الجواب الحقيقي في مزيج ما من الاحتمالين معًا:
– أي أنّ الزيادة في الاحتياطات لم تتحقق بكاملها، أو ربما بأغلبها، من عمليّات شراء الدولار من السوق. وهذا ما يطرح السؤال عن مصدر هذه الزيادة، وعن ما إذا كانت تمثّل تحسّنًا حقيقيًا في ملاءة المصرف المركزي.
– وإذا كان مصرف لبنان قد اشترى بعض الدولارات من السوق الموازية، ثمّة إجراءات معيّنة قام بها المصرف، وبكلفة تحمّلها “أحد ما”، كي لا تؤدّي هذه العمليّة إلى تضخّم الكتلة النقديّة بالليرة. وهذا ما يعني امتصاص جزء من الكتلة النقديّة المتداولة بشكل من الأشكال.
الأجوبة والتفسيرات للأحجية
المزيج الذي نتحدّث عنه، من الاحتمالين، يمكن شرحه على النحو التالي، بثلاثة مسارات جرت بشكل منفصل:
– على مرّ النصف الثاني من العام الماضي، طبّقت المصارف مضامين التعميم رقم 165، الذي ينظّم تداول المصارف بالدولارات الفريش من خلال المصرف المركزي. وهذا ما فرض على المصارف إيداع دولارات نقديّة طازجة، في حساباتها لدى مصرف لبنان. وعلى هذا النحو، كان جزء أساسي من زيادة الاحتياطات ناتجاً عن زيادة ودائع المصارف “الفريش” لدى المصرف المركزي. وبهذا الشكل، لا تعكس هذه الزيادة في الاحتياطات أي تحسّن في ملاءة المصرف المركزي. فمقابل هذه الزيادة في الموجودات، ثمّة زيادة مماثلة وموازية بالإلتزامات “الفريش” التي يمكن أن تطالب بها المصارف في أي لحظة، لتحويل الأموال إلى الخارج.
– على مرّ الأشهر السابقة، واظبت الإدارات العامّة على إيداع مردود الرسوم التي تتلاقاها بالدولار الطازج في حسابات الدولة لدى مصرف لبنان، وهو ما تراكم بالفعل في حسابات مستقلّة (أو هكذا يجب أن يكون الحال!). وتمامًا كحال إلتزامات المصرف المركزي للمصارف، يفترض أن تمثّل هذه الأموال إلتزامات بالدولار الطازج على مصرف لبنان. مع الإشارة إلى أنّ بعض بيانات المصرف المركزي السابقة أظهرت تمييز هذه الحسابات في خانات منفصلة عن سائر إلتزامات المصرف المركزي للدولة اللبنانيّة. وفي جميع الحالات، لا تمثّل الأموال الناتجة عن هذه العمليّات أي تحسّن في ملاءة المركزي.
– وعلى النحو نفسه، واظبت الدولة على مراكمة إيداعاتها لدى مصرف لبنان بالليرات الطازجة، كنتيجة لتحصيل الرسوم والضرائب بالنقد الورقي. وهذه العمليّات، امتصّت جزءًا كبيرًا من الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة، مقابل الليرات التي كان يضخّها مصرف لبنان جرّاء شراء بعض الدولارات من السوق. ولذلك، يمكن القول أن عمليّة تحصيل الرسوم والضرائب تحمّلت جزءًا من كلفة شراء الدولارات من السوق. وعلى أي حال، ستحتاج الدولة في المستقبل إلى استعمال هذه الليرات المودعة لدى مصرف لبنان، ما سيعيد ضخّها في الأسواق، إلا إذا كانت الخطة هي تحميل السياسة الماليّة (والضرائب) كلفة هذا الاستقرار النقدي بشكل مستمرّ.
في خلاصة الأمر، ما يجري اليوم يشبه بالفعل نوعًا من الاستقرار المؤقّت والمصطنع، كنتيجة لبعض الإجراءات الظرفيّة، والتي لا تشكّل بطبيعة الحال سياسة نقديّة مستقرّة ومستدامة على المدى البعيد. وكل ما سبق ذكره، يطرح السؤال أيضًا عن شفافيّة حسابات مصرف لبنان وآليّات الإفصاح المالي المعتمدة فيه. إذ أنّ تصريح المصرف المركزي عن احتياطاته فقط، من دون التصريح عن الاحتياطات الصافية (الاحتياطات ناقص المطلوبات بالدولارات الطازجة)، يعطي صورة مخادعة جدًا عن وضعيّة مصرف لبنان الماليّة.
وإذا أرادت “القيادة الجديدة” لمصرف لبنان أن تكون جديدة فعلًا، فعليها تصحيح أوجه القصور في آليّات الإفصاح المالي، كي لا تكون مجرد نسخة مقلّدة عن الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة.