على عكس التوجّه الإصلاحي الذي اتّصَفَ به العهد الجديد، وتحديداً لجهة حماية أموال المودعين في المصارف، جاء قرار حاكم مصرف لبنان كريم سعيد. وبدلاً من الاحتكام إلى القانون وتفعيل دوره في حماية الودائع، قرَّرَ سعيد السماح للمصارف بـ”الامتناع عن تسديد أي مبالغ من الحسابات بالعملة الأجنبية المكوّنة لدى أيّ منها قبل تاريخ 17/11/2019، سواء كانت مكوّنة لدى المصرف المعني أو تم تحويلها إليه بعد هذا التاريخ، بما يتجاوز السقوف المحددة في النصوص التنظيمية الصادرة عن مصرف لبنان، وكذلك دون الاستحصال على موافقة مصرف لبنان الخطية المسبقة”. فكيف يؤثّر القرار على حقوق المودعين باستعادة أموالهم؟ وهل يحمي القرار المصارف أم الودائع؟.
حماية الودائع
مع بداية العهد الجديد، استبشر المودعون خيراً، لا سيّما وأنّ رئيس الجمهورية جوزاف عون، أكّد في خطاب القَسَم على “عدم التهاون في حماية أموال المودعين”، وجَزَمَ بأنّ في عهده “ستلتزم المصارف تحت سقف الحوكمة والشفافية”، وستكون مصارفَ “لا حاكم عليها سوى القانون ولا أسرار فيها غير السرّ المهني”. (راجع المدن)
لكنّ حساب البيدر لم يطابق حساب الحقل. وخلافاً للسياق الإصلاحي، قَفَزَ حاكم مصرف لبنان فوق القانون، وأعطى لنفسه حقّ التشريع للمصارف بالوقوف في وجه المودعين، خصوصاً الذين يلجأون للمحاكم الأجنبية لتحصيل حقوقهم من المصارف اللبنانية، مستثنياً أحكام القانون رقم 283 الصادر بتاريخ 12/4/2022 الذي ينص على “إلزام المصارف العاملة في لبنان بصرف مبلغ 10000 دولار أميركي للطلاب اللبنانيين الجامعيين الذين يدرسون في الخارج قبل العام 2020-2021”.
مع ذلك، صَبَغَ الحاكم قراره بصبغة المساواة والعدالة، مستنداً إلى “الظروف الاستثنائية”. ففي متن القرار رقم 13729 رأى الحاكم أنّ مطالب المودعين بتسديد كامل الوديعة فوراً، هي مطالب “صحيحة ومحقة في مبدئها، غير أنه لا يمكن اعتبارها كذلك في الأزمات المصرفية، إذ تُحدث تمييزاً بين المودعين”.
هذا التمييز انطلق من قدرة بعض المودعين على تحصيل حقوقهم من المصارف عبر المحاكم الأجنبية، واعتبرهم “محظيين يملكون مميّزات خاصة بهم مقابل بقية المودعين في لبنان، الذين لا تتوافر لهم ذات المعاملة التفضيلية، إذ تبقى ودائعهم محجوزة كلياً أو جزئياً”. ووصفَ الحاكم بأنّ المدفوعات التي يحصّلها بعض المودعين عبر القضاء الأجنبي، هي “مدفوعات انتقائية”، ودفعها يشكّل “خرقاً فادحاً لمبادىء العدالة والمساواة والتناسب المالي”.
وعليه، ولحماية الودائع، جاء قرار الحاكم “استناداً لمفهوم الضرورات العامة ومبدأ الانتظام العام الاقتصادي”. وهذه الضرورات مستمرة “بانتظار الحل الشامل الذي يجري العمل عليه بالتعاون مع مختلف الجهات اللبنانية المعنية”.
قوّة القانون
اللجوء إلى القضاء استناداً إلى القوانين والدساتير والاتفاقات الدولية، هو حقّ إنساني وقانوني لأي صاحب حقّ، ومن غير القانوني مَنع صاحب الحق من اللجوء إلى القضاء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وهو ما يُضمِره قرار الحاكم. وكَون بعض المحاكم الأجنبية شكّلت مساراً لتحصيل حقوق بعض المودعين، فذلك لا يعني عدم قانونية هذه الخطوة أو عدم حقّ المودعين باتّباع ذلك المسار.
حتّى أنّ حسن النوايا التي ينطلق منها الحاكم لتبرير قراره عبر الاحتكام إلى مسألة المساواة والعدالة بين المودعين، لا يستقيم هنا، برأي الخبيرة القانونية المتخصصة في الشأن المصرفي، سابين الكيك، التي تعتبر في حديث لـ”المدن”، أنّ حسن النوايا يتمثّل بـ”تطبيق القوانين وليس القفز فوقها. فالقوانين تعطي كل صاحب حقّ حقّه”. (راجع المدن)
وإذا كان الحاكم حريصاً على المساواة والحقوق “عليه الالتزام بالقوانين، وترك الاختصاص للمحاكم. لكنّه فضّل أن يعطي لنفسه حصرية السلطة ليقرّر مَن يستطيع تحويل الأموال وسحبها، ومَن لا يستطيع”.
واستناداً إلى القوانين، تؤكّد الكيك أنّ “القضاء الأجنبي لن يعير أهمية لهذا القرار، إذ يعرف أنّ القرارات التنظيمية كقرار الحاكم، لا تعلو على القوانين والدساتير والاتفاقيات الدولية”. (راجع المدن)
قوّة القانون أمر محسوم بالنسبة للمودعين، ويُستَدلّ على ذلك من خلال تأكيد رابطة المودعين على أنّ “تعاميم مصرف لبنان هي قرارات إدارية لا يمكن لها أن ترقى لمستوى القوانين والقرارات القضائية والاتفاقات الدولية وغيرها، كما لا بد لها أن تكون متطابقة مع القوانين المرعية والا تكون ساقطة، وهذا ما أكدت عليه القاضية مريانا عناني في قرارها الصادر بتاريخ 15/12/2020”. تعتبر الرابطة في بيان أنّ التعميم “مقصود، لتكريس دور حاكمية مصرف لبنان كوصي على الأزمة من جديد وبسط يده في اتخاذ القرارات المخالفة لكل القوانين، في ظل ورشة الاصلاحات المرتقبة، لا سيما التشريعية منها”. كما أنّه محاولة “لتحميل المودع المزيد من الخسائر وشراء الوقت للمصارف التجارية وإعفاءها من مسؤولياتها، الأمر الذي لن نتهاون في مواجهته بشتى الوسائل”. (راجع المدن)
نقص السيولة في المصارف
على الضفة الأخرى، يرى رئيس وحدة الدراسات في بنك بيبلوس نسيب غبريل، أنّ “مصرف لبنان يقول من خلال التعميم أنّه يريد معالجة ملفّ الودائع بصورة عادلة، لا أن يحصل بعض المودعين على مبالغ مالية كبيرة، في حين يُحرَم البعض الآخر من وديعته لأنه لا يملك القدرة المادية لتكليف محامين لتحصيل أمواله”. ويعتبر غبريل في حديث لـ”المدن”، أنّ قرار الحاكم استند إلى “عدم قدرة المصارف على تأمين سيولة كافية لسداد كافة الودائع التي يحصل أصحابها على قرارات قضائية في الخارج، وعوضاً عن دفع مبالغ كبيرة لهؤلاء، يتم توزيع السيولة التي تستطيع المصارف تأمينها، على عدد أكبر من المودعين”.
ويلفت غبريل إلى وجود “نحو 5 مليارات و200 مليون دولار كسيولة للمصارف اللبنانية لدى المصارف المراسِلة، لكن لا يمكن استعمال كامل السيولة لسداد الودائع. علماً أنّ مجموع هذه السيولة ليس موزّعاً بشكل متساوٍ بين المصارف، وبالتالي قدرتها على التسديد للمودعين، غير متساوية”.
في الوقت نفسه، يطمئن غبريل إلى أنّ “الحسابات الجديدة بالدولار النقدي، غير مشمولة بالتعميم”. ويعتقد أنّ “حاكم مصرف لبنان يعلم بأنّ القرار سيخلق جدلية، وبالتالي قد لا يكون التعميم معزولاً عن إجراءات الحلول التي يعمل عليها مصرف لبنان، بل يمكن أن يكون جزءاً من تصوّر ما لحلّ مسألة الودائع، بانتظار موافقة السلطتين التشريعية والتنفيذية”.
وَضَعَ حاكم مصرف لبنان نفسه والمصرف المركزي، طرفاً ضدّ المودعين، حمايةً للمصارف من دعاوى المودعين، فاستدعى بذلك شبح الحاكم السابق رياض سلامة. وليست تلك المعضلة الوحيدة في هذا الملف، بل إنّ تداعيات التعميم عابرة للحدود. فالمجتمع الدولي ينتظر من لبنان إصلاحات ملحة، في مقدّمتها ملفّ الودائع والمصارف. وفي ظل شكوك المجتمع الدولي بقدرة القضاء اللبناني على اتخاذ قرارات جريئة استناداً إلى القانون، وفي معرض انزلاق لبنان إلى اللائحة الرمادية، يأتي قرار الحاكم داعماً لتلك الشكوك ويقدم دليلاً إضافياً على تعثّر الإصلاح وعلى أنّ الأزمة في لبنان لا تزال عميقة. لكن يبقى أمام المودعين “اللجوء إلى مجلس شوى الدولة للطعن بالقرار”، وفق ما تقوله الكيك، وكذلك “الرهان على احترام القضاء الأجنبي للقوانين”.