شركات الأدوية العالمية تجني أرباحا طائلة نتيجة قرار وزارة الصحة السابقة

يواجه لبنان اليوم أزمة صحية غير مسبوقة بعد رفع الدعم عن أدوية السرطان للمرضى في القطاع الخاص، ما أجبر المرضى على دفع كلفة العلاج كاملة وسط انهيار اقتصادي خانق وحجز المصارف لاموال المودعين ، في حين أن كلفة علاج أمراض السرطان والامراض المستعصية عموماً هي على عاتق الدولة في أغلبية الدول المجاورة ودول العالم. الهيئات الضامنة تغرق في الخسائر، فيما تحقق شركات الأدوية الأجنبية أرباحًا اضافية على حساب حياة الناس. بالإضافة إلى واقعة غياب نظام وطني لترميز المغروسات الطبية والبدائل الاصطناعية، ما ضاعف الفوضى والفساد ورفع أسعارها بشكل جنوني.

مصادر صحية اعتبرت ان الحل يكمن في تنظيم اسعار أدوية السرطان عبر قيام وزارة الصحة، بأقل الإيمان، وطوال الفترة حيث الوزارة غير قادرة على دعم الأدوية، بالتفاوض مع شركات الأدوية لتسعير أدوية السرطان المقدمة للهيئات الضامنة في القطاع الخاص وفق الأسعار نفسها التي كانت تعتمدها في تعاقدها مع وزارة الصحة، وإعادة تفعيل تغطية الضمان الاجتماعي.

أرقام صادمة

وفقاً للسجل الوطني للسرطان، الذي بدأ العمل به عام 2002 تحت إشراف وزارة الصحة العامة، تبين أن في عام 2020 تجاوز عدد حالات السرطان الجديدة المسجلة 11،589 حالة إصابة، في حين أن التقديرات الحديثة تشير إلى أن لبنان شهد ما يقارب 13،000 حالة سرطان جديدة في عام 2022، الأمر الذي يؤكد حتمياً أن هذه الأرقام مستمرة في الارتفاع. ومن هذا المنطلق، توقعت بعض الجهات المختصة تسجيل حوالى 20،000 حالة جديدة بنهاية 2025. كما أنه من المتوقّع بين عامي 2025 و2026، أن يشهد لبنان دخول ثورة في علاجات السرطان، وهي علاجات واعدة لكنها تأتي مع أسعار باهظة جداً.

وعلى الرغم من هذه الأرقام التي تثير القلق، تبقى أسعار أدوية السرطان مربكة ومرعبة أكثر بحيث دواء كيترودا (Keytruda) يكلف حوالى 5،400 دولار أميركي للجرعة الواحدة مع الإشارة إلى أن المريض يحتاج إلى 17 جلسة سنوياً أي ما يعادل 94،000 دولار أميركي سنوياً، وذلك في حال لم يستمر العلاج لأكثر من سنة كون في حال استمرار هذا العلاج لفترة سنتين على الأقل، يصبح المبلغ الإجمالي متجاوزاً 180،000 دولار أميركي. ومثلاً أخر، إن كلفة علاج الخلايا المعدلة وراثياً (CAR-T cell)، الذي يعتمد على تعديل خلايا المريض المداعية لمكافحة السرطان، قد تصل إلى 500،000 دولار أميركي أي نص مليون دولار أميركي.

وتتساءل هذه المصادر: إذا كانت فاتورة الأدوية قد تصل إلى مئات الآلاف من الدولارات، والاسعار الى تصاعد فمن الذي يجني الأرباح الطائلة من هذا الوضع؟

فمن الطبيعي أن يكون المستفيد الأول والأكبر من أسعار الأدوية الباهظة مثل العلاج المناعي والعلاج الخلوي، هي في المقام الأول شركات الأدوية العالمية المصنعة. ولكن في نهاية المطاف في غياب تغطية وزارة الصحة، يبقى المريض والنظام الصحي والجهات الضامنة هم من يتحملون العبء الأكبر لهذه التكاليف الباهظة، مما يعمق العبء على المواطن.

أعباء مضاعفة على المرضى والقطاع الخاص

منذ العام 2023، وبعد قرار وزارة الصحة الذي قضى بوقف الشراء وبرفع الدعم عن أدوية السرطان للمضمونين في القطاع الخاص، يعيش لبنان اليوم أزمة صحية غير مسبوقة تهدد حياة آلاف مرضى السرطان وتضع النظام الصحي بأكمله على حافة الانهيار. فقد جاء القرار من دون أي آلية لتثبيت أسعار هذه الأدوية للمشتري الذي انتقل الى القطاع الخاص، مما شكل هدية بعشرات ملايين الدولارات لشركات الأدوية الأجنبية التي طبقت أسعاراً أعلى بكثير على القطاع الخاص من تلك المطروحة على القطاع العام من خلال انخفاض عدد الأدوية التي تشتريها وزارة الصحة بسعر منخفض وارتفاع عدد الأدوية التي إضطر القطاع الخاص إلى شرائها بأسعار أعلى.

وبالتالي، فإن غياب تسعيرة موحدة لأدوية السرطان وعدم تأمين أي بديل جعل النتيجة مأسوية على مختلف المستويات وخصوصاً ان ذلك أدى وما زال يؤدي إلى استغلال المريض من خلال تهريب الأدوية المزورة من الدول المجاورة وإدخالها إلى البلاد بصورة غير شرعية، أي أن الاستمرار في عدم تنظيم وتثبيت الأسعار يؤدي إلى تفلت وفساد وتهريب أدوية مزورة وإدخالها إلى لبنان، وإن هذا الأمر ليس بعيداً عن الواقع خاصة بعد انتشار حديثاً العديد من الأخبار التي تؤكد ذلك والتي تم على أثرها توقيف العديد من المتورطين. فقد وجد المرضى أنفسهم عاجزين عن تحمّل التكاليف الباهظة، بينما غرقت الهيئات الضامنة في خسائر مالية ضخمة بعدما رمت وزارة الصحة القطاع الخاص بأكمله في مهب الريح وجشع شركات الأدوية التي قامت بتسعير هذه الأدوية للهيئات الضامنة والمواطنين بأسعار أعلى بكثير من تلك التي كانت تعتمدها في عقودها مع الوزارة.

القطاع الخاص على شفير الانهيار

إن هذه الأزمة قد كشفت ازدواجية فاضحة في تسعير الأدوية؛ فبينما تحصل وزارة الصحة على أسعار مناسبة وتعتبر منطقية ومن ثم تقوم الوزارة بدعمها وتقديمها بسعر مدعوم للقطاع العام، تفرض الشركات الأجنبية على الهيئات الضامنة أسعارًا تزيد على 25% من السعر المعطى للوزارة، مضافاً إليه النسبة التي كانت مدعومة من الوزارة فتصبح النسبة تتراوح بين 40% و 60% أعلى من الأسعار التي كان يتحملها القطاع الخاص. هذه المعادلة سمحت لتلك الشركات بتحقيق أرباح طائلة تقدّر بعشرات ملايين الدولارات خلال عامين فقط، من دون أي مساءلة أو رقابة كون سجلت أرباح هذه الشركات في عام 2024 وبداية عام 2025 أرباحاً لا تقل عن 30% مقارنة بأسعارها السابقة مع الوزارة، كما حققت هذه الشركات وفراً إضافياً بنسبة لا تقل عن 20% نتيجة توقف التأخير في تسديد مستحقاتها من قبل وزارة الصحة حوالى السنتين، ما يضاعف مسؤوليتها الأخلاقية والاجتماعية في هذا الملف. وبذلك، تكون قد تحوّلت حياة المرضى إلى سلعة في سوق مفتوح للاستغلال، فيما بقيت الدولة عاجزة عن وضع حد لهذا النزيف الأخلاقي والمالي، وزادت أرباح الشركات بما لا يقل عن 50%.

وعليه، فإن القطاع الصحي الخاص، الذي يشكّل العمود الفقري للرعاية الصحية في لبنان، بات اليوم يهدد استدامة تقديم الخدمات بعد أن اضطرت الهيئات الضامنة إلى رفع الأقساط بشكل محدود سنوياً مراعاةً للأوضاع الاقتصادية للمؤمنين، لكن هذه الخطوة لم تكن كافية لتعويض الخسائر ولا الكلفة الباهظة. ومع عجز عدد كبير من المشتركين عن دفع الأقساط وانسحابهم من التغطية وفي ظل الارتفاع الهستيري في سعر دواء السرطان، تزداد المخاطر بأن تضطر الهيئات الضامنة إلى رفع الأقساط بشكل غير مسبوق، ما سيضعف قدرة اللبنانيين أكثر على الاستفادة من التأمين الصحي أو الى ايجاد التغطيات بأسعار مقبولة، وما سيشكل تهديداً جسيماً على القطاع العام الذي بات عاجزا عن إيجاد حلول في ظل تخلي وزارة الصحة عنه.

هذا الواقع جعل الهيئات الضامنة والوزارة عاجزة عن التخطيط المالي أو ضبط الكلفة، فيما استفاد الموردون وشركات الاستيراد من الفوضى لتحقيق أرباح غير مبررة. ومع الانهيار الاقتصادي والتضخم المتسارع، تحوّل هذا القطاع إلى ساحة استغلال على حساب حياة المرضى.

في حال انهيار امكان قطاع التأمين الصحي الخاص بتحمل هذه التغطيات، ستضطر وزارة الصحة إلى تحمّل كلفة العلاج وحدها. هذا السيناريو يعني أعباء مالية بملايين الدولارات شهريًا، وهو ما يفوق قدرة الدولة اللبنانية على الاحتمال. النتيجة المتوقعة ستكون أزمة إنسانية واسعة النطاق، ارتفاع غير مسبوق في معدلات الوفيات، وفقدان شامل للثقة بالنظام الصحي. وبذلك يتحوّل المرض من قضية علاجية إلى مأساة وطنية تهدد كل أسرة لبنانية.

مصدرالديار - جوزف فرح
المادة السابقةمجلس الوزراء يعيّن هيئتين ناظمتين ويقرّ رخصة «ستارلينك»
المقالة القادمةلجنة الاشغال النيابية تستعجل وزير الطاقة لتحضير خطة للكهرباء قصيرة الاجل