اتخذت تركيا في السنوات الأخيرة نهجًا إستراتيجيًا تجاه القارة السمراء، إذ قررت اتباع سياسة “الانفتاح على إفريقيا”، بحثًا عن أسواق جديدة وسعيًا إلى توسيع حضورها السياسي والاقتصادي والتجاري في المنطقة، فقد بذلت جهودًا مكثفة لزيادة حصتها من العلاقات الاقتصادية والتجارية مع إفريقيا، حتى باتت تركيا، إلى جانب البرازيل والصين والهند، واحدة من أكثر الدول حضورًا في القارة.
أسست أنقرة وجودها في القارة الإفريقية على أرضية دبلوماسية وثقافية على شكل مساعدات إنسانية وتعليمية وصحية، وبذلك اكتسى التقارب الإفريقي التركي برداء الإنسانية والدبلوماسية والروابط التاريخية المشتركة، إلا أنه تقارب اقتصادي في جوانبه الأخرى، فبعد 14 عامًا تقريبًا من تدفق المساعدات والمنح التركية إلى إفريقيا، بدأت أنقرة تحصد منافع كانت تتطلع لها شيئًا فشيئًا من خلال شركة “كارباورشيب” (Karpowership) إحدى أكبر شركات الطاقة التي تقدم خدماتها عبر محطات توليد كهرباء عائمة منذ عام 1996.
تاريخ الشركة ولائحة الزبائن
تعد “كارباورشيب” جزءًا من “مجموعة كارادينيز للطاقة” (Karadeniz Energy Group)، التي تعد أول مصدر خاص للكهرباء في تركيا وتدير مشاريع الطاقة في الأسواق المحلية والدولية على مدى السنوات العشرين الماضية منذ عام 1996، كما تمتلك أكثر من 2600 موظف من 19 جنسية مختلفة. في عام 2007 زودت أول محطة كهرباء عائمة إلى العراق.
تزود “كارباورشيب” عددًا كبيرًا من الدول بالطاقة الكهربائية عبر تحويل سفن الشحن المصممة لنقل الفحم أو الرمل إلى محطات طاقة متنقلة، حيث تمد 60% من غامبيا بالكهرباء و26% من غانا و100% من غينيا بيساو و10% من غينيا و25% من لبنان (وقعت عقدًا في عام 2013) و10% من موزمبيق و15% من السنغال، و80% من سيراليون و10% من السودان و10% من كوبا 30% من شمال سولاويزي و16% من زامبيا و30% من جنوب العراق.
تبين القائمة المعروضة على موقع الشركة أن الدول الإفريقية تحتل أكثر من نصف قائمة الاستثمارات، إذ تمد “كاربورشيب” 80% من سكان غرب إفريقيا بالكهرباء عبر سفينتين مثبتتين قبالة مدينة فريتاون عاصمة سيراليون بموجب عقد تم توقيعه قبل عامين، وتعمل السفينتان بالوقود المزدوج باستخدام زيت الوقود الثقيل أو الغاز الطبيعي المُسال.
كما توفر “كارباورشيب” في الوقت الراهن نحو 4100 ميجاواط من الطاقة من أسطولها المؤلف من 25 سفينة، حيث تستهدف خدماتها نحو ثماني دول إفريقية، بالإضافة إلى كوبا والشرق الأوسط وآسيا.
وقعت الشركة مؤخرًا صفقة لإمداد مرافق الطاقة الحكومية في دولة سيراليون بالكهرباء لمدة خمس سنوات، ومع تنفيذ الاتفاقية الجديدة، ستضاف 5 ميجاواط للإنتاج الحاليّ، فمن المتوقع أن تنتج “كارباورشيب” ما متوسطه 63 ميجاواط خلال موسم الجفاف و23 ميجاواط خلال موسم الأمطار لـ”هيئة توزيع وتوريد الكهرباء (Electricity Distribution and Supply Authority)” في سيراليون.
“كارباورشيب” في ليبيا
المثير للاهتمام، أن شركة “كارباورشيب” الشريكة في مجموعة “قره دينيز” التركية للطاقة تستعد لإرسال فريقها إلى ليبيا لتزويدها بالكهرباء (1000 ميجاواط أو ثماني ساعات من الكهرباء الإضافية) عبر موانئ غرب طرابلس والخُمس ومصراته، باستخدام الغاز الطبيعي أو الديزل، وهي الخطوة التي ستنهي مشكلة انقطاع التيار الكهربائي في البلاد التي نتجت عن الأضرار البالغة التي تعرضت لها البنية التحتية بسبب هجمات قوات الانقلابي خليفة حفتر.
تعمل إلى جانبها شركتي تشاليك التركية (Çalık Enerji) و(ENKA)، حيث تنتج الأولى 6٪ من الطاقة الحالية في ليبيا وتتفاوض مع إدارة طرابلس لتجديد محطات الطاقة وتركيب محطات جديدة وتجديد خطوط النقل، أما الأخيرة فتعد واحدة من بين أكبر شركات البناء والطاقة في تركيا، حيث أنشأت محطات طاقة كبيرة الحجم في ليبيا وأصبحت الآن في مرحلة الإنتاج وتنتظر توفير الكهرباء التي تشتد الحاجة إليها في المنطقة.
وتعليقًا على هذه الجهود قال رئيس مجلس الأعمال التركي الليبي مرتضى كارانفيل إن تركيا ستلعب دورًا نشطًا جدًا في النظام الجديد الذي سيتم إنشاؤه في ليبيا، معبرًا عن أهمية هذه الخطوة من حيث إتاحة دخول تركيا إلى السوق الأفريقية على اعتبار أن تركيا تبيع العديد من المنتجات التي تحتاجها ليبيا وبمجرد استقرار الأوضاع الأمنية في المنطقة سيزداد حجم المعاملات التجارية.
جرى ذلك، خلال زيارة وفد تركي رفيع المستوى ضم وزير الخارجية مولود تشافوشوغلو، ووزير الخزانة والمالية بيرات البيرق، والمتحدث باسم الرئاسة إبراهيم كالين ورئيس جهاز المخابرات الوطنية التركي، هاكان فيدان العاصمة الليبية طرابل، حيث عقدوا سلسلة من الاجتماعات مع حكومة الوفاق الوطني، وتناولوا مشروعات واستثمارات القطاعين العام والخاص التركي فيما يتعلق بقضايا البنية التحتية والنفط في ليبيا.
“كارباورشيب”.. لاعب رائد في مجال الطاقة
خلق وباء كورونا مكاسب غير متوقعة للشركة التركية من خلال الاستفادة من مزايا محطات الطاقة العائمة، فقد أثبتت “كارباورشيب” أنها الخيار الأمثل في مشروعات إمداد الطاقة خلال الأزمة، فقد نأت بنفسها بعيدًا عن النزاعات والأزمات التي تجعل بناء محطات الطاقة الأرضية أمرًا صعبًا، فحين أجبرت العديد من الشركات على الإغلاق ووقف نشاطاتها، ظلت هي تعمل وتورد وتلبي مواعيد التسليم النهائية خلال 60 يومًا كحد أقصى إلى أي مكان في العالم.
في هذا السياق، تقول كبيرة المسؤولين التجاريين في الشركة، زينب حريزي: “لم يتمكن الموردون من الالتزام بالجداول الزمنية الخاصة بهم، ولم يتمكن العمال من القيام بأعمال البناء في المواقع المحددة، ولذلك زاد الطلب على خدماتنا. نتحدث الآن إلى أكثر من 10 دول طلبت إمداداتها في أقرب وقت ممكن”.
ووضحت لاحقًا أن من بينها دولة من الشرق الأوسط التي ازداد استهلاكها للكهرباء بسبب استخدام مكيفات الهواء، وذكرت أيضًا أن المفاوضات مستمرة مع دولة في أمريكا اللاتينية لإنشاء محطة طاقة عائمة بقوة 120 ميجاواط.
لدى الشركة التي توفر أكثر من نصف الكهرباء التي تستهلكها العديد من دول غرب إفريقيا، بما في ذلك غينيا بيساو وغامبيا وسيراليون، أحلام كبيرة لمضاعفة حجم أسطولها في السنوات الخمسة المقبلة، إذ تخطط الشركة لزيادة طاقتها المركبة إلى 2.5 جيجاواط، وهو ما يكفي لتشغيل ما يقرب من 17 مليون منزل.
لكن بعض المراقبين يعتقدون أن “كارباورشييب” لا يمكن أن تكون سوى خيار مؤقت للبلدان ذات البنية التحتية القديمة أو المتهالكة، إلا أن حريزي تعترض وتؤكد أن سفن التوريد يمكن أن تبقى في مكانها لمدة تصل إلى 25 عامًا.
وأضافت الحريزي: “نعتقد أن سفن الطاقة العائمة التي يمكنها العمل فقط من خلال الاتصال بخط الكهرباء ستكسب المزيد من القيمة”، أحد أسباب ذلك أن “بناء محطة للطاقة الأرضية أصبح أكثر صعوبة اليوم بسبب التحديات والنزاعات وعدم اليقين في تمويل المشاريع وتوريد مواد البناء”.
وتابعت “هذا يقود الدول إلى مشاريع يمكن من خلالها الحصول على حلول بشكل أسرع رغم وجود بعض الصعوبات في حركة الموظفين والإجراءات الجمركية”.
يدعم عثمان كارادينيز رئيس الشركة موقف حريزي ويقول: “أصبحت سرعة نقل الكهرباء المولدة حرجة مع تزايد الطلب العالمي على الطاقة مع مرور كل يوم”، الأرقام تؤكد حجته، إذ تقدر إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أن الاستهلاك العالمي للطاقة سيزيد بنسبة 48% بحلول عام 2040.
سد النقص الحاد في الطاقة
تنشر شركة “كارباورشيب” التركية 19 محطة عائمة في 11 دولة في إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا بالإضافة إلى كوبا، وفي شهر فبراير/شباط الماضي قدمت خطة لجنوب إفريقيا لتوفير عدة سفن بهدف سد النقص الحاد في الطاقة بالبلاد والتخلص من هذه الأزمة التي تعيق النمو الاقتصادي في أكثر الدول الصناعية في إفريقيا، حيث تكافح المصانع التي لا تعتمد على الفحم لتوليد ما يكفي من الكهرباء لتلبية الطلب.
جاءت هذه الخطوة بعد أن أصدرت وزارة الطاقة (Eskom Holdings SOC Ltd) في جنوب إفريقيا في شهر ديسمبر/كانون الأول طلبًا لتزويد البلاد ما بين 2000 و3000 ميجاواط بالطاقة التي يمكن توصيلها في أقصر وقت وبأقل تكلفة، وبالنظر إلى العقد الذي أبرمته الشركة مؤخرًا مع السنغال، الذي زودت بموجبه البلاد بـ120 ميجاواط في غضون تسعة أسابيع، فإن “كارباورشيب” لديها قدرة عالية على الاستجابة وسرعة التسليم.
في هذا الخصوص تقول الحريزي إن الهدف من الاستثمارات في القارة هو “أن تكون عاملًا محفزًا للتعاون الإقليمي بين البلدان الإفريقية، للاستفادة من تنميتها وتقدمها وخلق فرص عمل وتوفير التكنولوجيا والطاقة المستدامة، بما في ذلك الطاقة المتجددة”، لكن يرى يالسين كيروغلو، رئيس مؤسسة العلاقات الاقتصادية الخارجية في مدغشقر أن الاضطرابات السياسية وما يتبعها من معيقات تعتبر التحديات الرئيسية في تنفيذ مشروعات الطاقة في إفريقيا.
ومع ذلك فإن الشركات التركية لا تزال متفائلة وتأمل في مواصلة الاستثمار بإفريقيا، حيث تعتبر القارة مكانًا مليئًا بالصلات والفرص المحتملة، فبحسب الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، فإن اثنين من كل ثلاثة أشخاص في إفريقيا جنوب الصحراء يفتقرون إلى الكهرباء، ما يعني أن القارة السمراء تمتلك أرضية خصبة لتطلعات “كارباورشيب” في توسيع رقعة استثماراتها على أراضيها.
المصدر: نون بوست – نور علوان