استنفدت مؤسسة الكهرباء مخزونها من الفيول مجددًا، وعادت إلى حالة الطوارئ التي قد لا تسمح بتغطية حاجات المرافق العامّة الأساسيّة، بعدما قُطع التيّار عن المنازل بشكل نهائي. والسؤال الذي يعود كل مرّة إلى الواجهة: ما سرّ هذه التعثّر، رغم دولرة تعرفة الكهرباء، ورفعها لتتماشى ما أسعار الفيول الرائجة؟ مع الإشارة إلى أنّ خطّة وزارة الطاقة الأساسيّة، التي طرحت عند تصحيح التعرفة ودولرتها، أخذت بالاعتبار استعادة التوازن المالي للمؤسّسة، لا الاعتماد على سلفات الخزينة وتمويل الحكومة. تتبّع حلقة الاتهامات وتقاذف المسؤوليّة، يقودنا إلى مشهد يتداخل فيه النكد السياسي بأولويّات السياسة النقديّة وسوء الإدارة التاريخي في القطاع.
المشكلة الأساسيّة في مقاربة هذه الأزمة، هي الغموض الكبير الذي يحيط بوضعيّة القطاع وأرقامه الراهنة. فلا رئاسة الحكومة، ولا مؤسسة كهرباء لبنان ومصرف لبنان أفصحوا حتّى اللحظة عن حجم الإيرادات التي تم تحقيقها بعد زيادة التعرفة، في مقابل الأكلاف التشغيليّة التي ترتّبت خلال الفترة نفسها. بل وحتّى أرصدة المؤسّسة لدى مصرف لبنان، بالعملة المحليّة والدولار الأميركيّ، لا يمكن معرفتها إلا بمعلومات متضاربة جدًا. وهذا ما يعطي عدّة تفسيرات متعارضة للأزمة: هل ما يجري عارض من عوارض سوء الإدارة التاريخي في هذا القطاع؟ أم أنّ حسابات مصرف لبنان النقديّة وحسابات الحكومة الماليّة تتعارض مع الخطّة الأساسيّة التي رفعت التعرفة؟
إشكاليّة تمويل الفيول العراقي
البحث عن سبب الأزمة الراهنة، يقودنا إلى السؤال عن إشكاليّة التمويل أولًا. قبل أيّام من الانقطاع التام في التغذية الكهربائيّة، مهّدت مصادر وزارة الطاقة للأزمة بتسريب أنباء عن ضغوط مارسها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، لاستعمال 100 مليون دولار من واردات المؤسّسة لسداد مستحقات متأخّرة في صفقة الفيول العراقي، بدل السماح باستعمال هذه الأموال لشراء شحنات جديدة من الفيول. المصادر والتسريبات أكّدت أنّ الخطوة ستؤدّي عمليًا إلى عجز مالي في ميزانيّة المؤسسة، في حين أنّ الجانب العراقي لم يطلب “عملة صعبة” مقابل الفيول، بل خدمات عامّة يمكن تأمينها من السوق المحلّي بالليرة اللبنانيّة. وحسابات المؤسّسة الراهنة، لا تسمح بسداد هذه المتأخّرات.
على هذا النحو، بات هناك ربط ما، بين تسديد هذه المتأخّرات، وأزمة العجز المالي الحاليّة. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا لا تستطيع مؤسّسة الكهرباء تمويل مستحقات الفيول العراقي، وشحنات الفيول الجديدة، طالما أن التعرفة الجديدة كانت تلحظ تحقيق التوازن المالي في القطاع، وتغطية نفقاته؟
الإجابة الوافية على هذا السؤال، يمكن الحصول عليها من اجتماع لجنة الأشغال العامّة والنقل النيابيّة، التي تم تخصيصها لتناول هذه الأزمة بالتحديد. في ذلك الاجتماع، تبيّن أن الخطّة التي جرى بموجبها رفع التعرفة، لم تأخذ بالاعتبار مستحقات الفيول العراقي، التي كان من المفترض تمويلها من حساب الخزينة العامّة، أي إيرادات الدولة، لا من ميزانيّة مؤسسة كهرباء لبنان.
أي بصورة أوضح: لم تكن الخطّة تضمن أصلًا تحقيق التوازن المالي الموعود في القطاع، بل كان ثمّة كلفة جانبيّة مخفيّة، تُركت كقنبلة موقوتة، من خارج الحسابات المُعلنة. والقنابل الموقوتة، سمة تاريخيّة من سمات إدارة هذا القطاع.
موازنة “الصفر عجز”
عند هذا الحد، يتبيّن أنّ الإشكاليّة الأولى ترتبط بشفافيّة خطّة وزارة الطاقة نفسها، التي فُرض على اللبنانيين تسديد التعرفة المرتفعة على أساسها، بناءً على وعد زيادة التغذية عند تغطية نفقات الفيول. ننتقل بعدها إلى الإشكاليّة الثانية: لماذا لم يتم تمويل مستحقات الفيول العراقي المتأخرة من حسابات الخزينة العامّة، طالما أن الخطّة الأساسيّة راهنت على هذا الأمر؟
الإجابة هنا تكمن في صفحات الموازنة العامّة، التي كان يفترض أن تكون الصك التشريعي الذي يسمح بالإنفاق من حسابات الخزينة. ومن دون هذا الصك، لا يمكن تمويل متأخّرات الفيول. الموازنة لم تنص على اعتمادات لهذه الغاية، وعقد الفيول العراقي لم يتم عرضه أصلًا على مجلس النوّاب لمصادقته، بوصفه صفقة ترتّب إلتزامات على الدولة اللبنانيّة. وعلى هذا الأساس، لم يوافق مصرف لبنان على تمويل هذه المتأخرات اليوم من حساب الخزينة، كما راهنت خطّة وزارة الطاقة.
إذًا، الموازنة لم تعكس النفقات المرتقبة بشفافيّة أيضًا، وهذه مسألة يُسأل عنها مجلس الوزراء الذي أعدّ بنودها قبل إحالتها إلى البرلمان، ومعه وزيرا الطاقة والماليّة. هل كان المقصود إبقاء هذه الكلفة مخفيّة ومن خارج الموازنة، ومن ثم تمويلها من خارج الموازنة، كما جرى في دفعات سابقة تم تحويلها إلى الجانب العراقي؟ أم كان المطلوب إبقاء هذا اللغم وتأجيل التعامل معها، بانتظار انفجاره، كما حصل اليوم؟ يصعب الجواب على هذا السؤال، لاتصاله بالنوايا التي لا يمكن فهمها من الخطط والمستندات والتصريحات. لكنّ الأكيد، هو أنّ كل من عمل على الموازنة ترك فيها قنبلة موقوتة.
غير أنّ الحديث عن النوايا، يعيدنا إلى مسألة معروفة جدًا: عند إعداد الموازنة، ومن ثم إقرارها، كانت الأولويّة الأهم إظهار صورة العجز المضبوط، ولو على حساب التقديرات غير الواقعيّة للنفقات والإيرادات. موازنة من هذا النوع، هي السبب لكثير من مشاكل القطاع العام الراهنة، والتي يتلخّص تشخيصها على النحو التالي: الاعتمادات الملحوظة لكل مؤسّسة وإدارة عامّة غير كافية، وغير واقعيّة. والإيرادات المطلوبة لتمويلها موجودة فعليًا، لكنّها غير ملحوظة في الموازنة أيضًا، بسبب التقدير العبثي للإيرادات في الموازنة. والنتيجة المعروفة هي تراكم الإيرادات العامّة في المصرف المركزي، على النحو الذي بات معروفًا اليوم.
السياسات الماليّة والنقديّة
الحلقة الأخيرة من المشكلة، ترتبط بالجهة التي تدير السياسات الماليّة والنقديّة في مصرف لبنان ووزارة الماليّة، بشكل متناسق جدًا. في مصرف لبنان، يرفض منصوري اليوم تمويل سداد متأخرات الفيول العراقي، بسبب عدم وجود النص التشريعي، رغم موافقته على عمليّات مماثلة في السابق. وفي وزارة الماليّة، ثمّة من تعمّد تغييب هذا البند من نص الموازنة. وهذا ما يتكامل مع ترتيب أولويّات إدارة المجلس النيابي، التي لم تطرح عقد الفيول العراقي على الهيئة العامّة للمجلس. المُثلّث هذا، بين إدارة البرلمان ووزارة الماليّة وحاكميّة مصرف لبنان، ينسجم سياسيًا وماليًا في جميع الملفّات، ما يفرض النظر إلى هذه القرارات كحلقة متكاملة، لا كخطوات مستقلّة من قبل كل طرف.
السياسة القائمة على التقشّف المفرط، ولو على حساب التقدير الواقعي للنفقات المطلوبة، ورغم توفّر الإيردات العامّة المتراكمة في مصرف لبنان، لها أسبابها وخلفيّتها الماليّة والنقديّة. هذه السياسة، هي ما يحقّق اليوم التراكم في احتياطات مصرف لبنان، من دون الإضرار بسعر الصرف. وما يجري في قطاع الكهرباء اليوم، يرتبط بشكل وثيق بهذه السياسة، المنسّقة بين مصرف لبنان ووزارة الماليّة.
لكن هذه المسؤوليّة، لا تقلّل أبدًا من المسؤوليّة الأكبر المُلقاة على خطّة وزارة الطاقة والمياه، صاحبة “الفضل” الأوّل في زرع “اللغم المالي” الذي انفجر اليوم، من خلال تجاهل كلفة الفيول العراقي في خطّتها.