صفقة ستارلينك… ازدواجية مُربكة وشفافية غائبة

بدلًا من أن ينهي بيان وزارة الاتصالات الذي صدر الثلثاء الجدل حول صفقتها المطروحة لتلزيم خدمة الانترنت عبر الأقمار الاصطناعية لشركة “ستارلينك”، فتحه على احتمالات أكثر التباسًا، وأدخل النقاش في دوامة، لا تزال تكشف خلافًا جوهريًا، قانونيًا وسياسيًا، في مقاربة هذا الملف.

وفقًا لهذا البيان، إنقلبت الوزارة على “مناورتها” في نشر إعلان ملف التعاقد مع “ستارلينك” عبر منصة هيئة الشراء العام. إذ وضع البيان هذا النشر في إطار “المشورة العامة”، وهذا ما أوحى أنها خطوة تندرج في إطار لياقة أدبية فقط. بينما قانون الشراء العام يشكل وفقًا لرأي لجنة الاتصالات النيابية، معبرًا إلزاميًا لدخول الانترنت عبر الأقمار الإصطناعية الى السوق اللبنانية، خصوصا أن “ستارلينك” ليست الشركة الوحيدة التي تقدم هذه الخدمة عالميًا، وهي أيضا ليست الوحيدة التي قدمت عروضا للدولة اللبنانية. وهذا ما يتطلب وفقًا لأراء خبيرة شرعت بدراسة البيان وتفنيده بالشكل والمضمون، إعداد دراسة دقيقة تضع مصلحة الدولة في أي دفتر شروط يطرح لتلزيم الخدمة فوق أي اعتبار، فلا يفوز فيها إلا العرض الأفضل، سواء من الناحية المالية أو الخدماتية، أو من ناحية صيانة السيادة الرقمية.

تجاهل عروض

وكانت المديرية العامة للاستثمار والصيانة في وزارة الاتصالات قد نشرت إعلانًا في 22 آب الماضي عبر منصة هيئة الشراء العام، ثبّت توجهها للترخيص لستارلينك من خلال مرسوم يصدر عن مجلس الوزراء، من أجل تقديم خدمات توزيع الانترنت على كامل الأراضي اللبنانية عبر الأقمار الصناعية المشغلة من قبل شركة Space X.

جاء الإعلان بشكله مناقضًا للتوصية التي وجهتها هيئة الشراء العام الى وزارة الاتصالات قبيل جلسة طرح طلب الترخيص على مجلس الوزراء التي انعقدت بتاريخ 5 آب الماضي، حيث شددت الهيئة على “مبادئ العلنية والمنافسة والمساواة وتكافؤ الفرص” في إصرارها على خضوع هذه الصفقة لقانونها.

إلا ان ما حصل بعد جدل، بعضه دار في جلسات مجلس الوزراء وبعضه الآخر في لجنة الاتصالات النيابية، أن وزارة الاتصالات أذعنت للامتثال الى مبدأ العلنية في الإعلان عن الصفقة عبر منصة هيئة الشراء العام، ولكنها تجاهلت تمامًا مسؤوليتها في إعداد دفتر شروط يستدرج شركات أخرى أبدت اهتمامها بالسوق اللبناني، ومن بينها شركتي “يوتلسات” و”أراب سات”، على رغم إقرار الوزارة بأن المباحثات معهما في تقدم مستمر.

لا مراعاة لـ”الشراء العام”

بعد نحو أسبوع على إشهار النوايا بالترخيص لستارلينك عبر المنصة، جاء بيان وزارة الاتصالات بالأمس لينسف حتى مبدأ خضوعها لقانون الشراء العام. فتجاهل تحذير الهيئة من اجراء أي عملية شراء الا طبقًا لأحكام القانون، خصوصًا أن “إحدى غايات المنافسة التي كرستها المادة الأولى منه هي الفعالية، أي الحصول على القيمة مقابل المال العام، ما يعني أفضل الخدمات بأقل تكلفة على المواطن”. وكشف مجددًا عن تمسك الوزارة باتفاقها الرضائي مع “ستارلينك”، على رغم انتفاء شروط العقد الرضائي المنصوص عليها في قانون الشراء العام في هذه الصفقة وفقًا لأراء خبيرة.

في بيان الوزارة بالمقابل إيضاح أن “النشر على المنصة، جاء بناء على طلب هيئة الشراء العام ولجنة الاتّصالات النيابية اللتين اقترحتا هذا الأمر، لاعتبارهما أنه يندرج في إطار تطبيق القانون رقم 244/2021 وتعديلاته. وقد وافقت وزارة الاتّصالات على النشر بالنظر إلى حرصها على الشفافية، واستئناسًا بما يعرف بمبدأ المشاورة العامة consultation publique، مع تأكيدها لجميع الجهات المعنية، بأن مشروع الترخيص ليس عملية شراء عام، وبالتالي هو يخرج عن نطاقه ويخضع لأحكام القانون الإداري العام الذي ينظّم الأعمال الأحادية الطرف الصادرة عن السلطة الإدارية، وللنصوص التي ترعى عمل قطاع الاتّصالات في لبنان.”

ولكن الوزارة وفقًا لبيانها أبقت المسارَين قائمَين، تاركة لمجلس الوزراء أمر البت في مشروع مرسوم الترخيص.

إزدواجية مربكة

هذه المقاربة اعتبرت وفقًا لرأي خبير مواكب للنقاشات التي دارت حول صفقة “ستارلينك” منذ بدايات إطلاقها، أنها تتسبب بإزدواجية مربكة في مسار الملف. إذ لا يمكن قانونًا “الإبقاء على مسارين لملف واحد. فإما أن يكون هناك مناقصة قائمة على مبدأ المنافسة، وتضمن المساواة والشفافية، أو نكون أمام عمل ترخيصي تنظيمي عام بشروط معلنة ومتاحة للجميع.”

بحسب هذه القراءة في المقابل، فإن مواصفات المشروع المطروح، والذي يتضمن حقوق نفاذ إلى السوق والتزامات وشروط تشغيل ورسوم، تجعله أقرب إلى عقد إداري، لا إلى قرار تنظيمي عام. وعليه، لا يجوز منحه لمشغّل بعينه عبر تفاوض ثنائي.

لم تبدد هذه الشكوك في المقابل، تأكيدات وزارة الاتصالات بأنها “تعمل على دراسة فرص إضافية مع مشغّلي أقمار اصطناعية آخرين، وذلك بهدف توفير بدائل متعددة وضمان مرونة تشغيلية تؤمّن خدمة مستدامة، وتفادي أي اعتماد حصري على مشغّل واحد”. ذلك لأن مقاربتها أبقت باب التفاوض الثنائي مفتوحًا خارج مسار تنافسي واضح، متجاهلة أدوارًا قانونية جوهرية، ولا سيما دور الهيئة الناظمة المنصوص عليه في القانون 431/2002، مع أن غياب مجلس إدارة للهيئة لا يُعطِّل القانون ولا ينقل صلاحياته إلى تفاوض ثنائي.

جرعة دعم

من الواضح أن وزارة الاتصالات تجرعت جرعة دعم من خلال رأي هيئة التشريع والاستشارات التي اعتبرت أن الصفقة لا تخضع لقانون الشراء العام. وهي بالاستناد الى هذا الرأي تجاوزت أيضًا قانون الاتصالات الصادر في العام 2002، وتذرعت بغياب المراسيم التطبيقية لهذا القانون، لتخضع ستارلينك للأصول القانونية المحددة في المرسوم الاشتراعي رقم 126/1959 والذي يقضي بالترخيص لها بموجب مرسوم يتّخذ في مجلس الوزراء. كما أن الوزارة سارت بهداية رأي هيئة التشريع في المساواة بين الترخيص لستارلينك وأي رخصة أخرى منحتها وزارة الاتصالات لشركات نقل المعلومات في المرحلة الماضية.

إلا انه وفقًا للقراءة الخبيرة فإن استناد الوزارة الى رأي هيئة التشريع والاستشارات لتجاوز المسار التنافسي، وخصوصًا عندما يمنح الترخيص حقوق تشغيل ومقابلًا اقتصاديًا لمشغّل محدّد، لا يستقيم. وشددت هذه القراءة بالتالي على أن هذا الرأي يبقي إرشاديًا ولا يعلو على القوانين النافذة، وبخاصة قانون الشراء العام رقم 244/2021 والقانون 431/2002.

خلفيات الإصرار على ستارلينك

انطلاقًا من كل ما ذكر يبدو بيان وزارة الاتصالات أقرب إلى تبرير سياسي منه إلى إيضاح قانوني، لا بل كشف عن التباس في فهم مبدأ العلنية والمنافسة. وهذا ما زاد من التساؤلات حول خلفيات هذا الإصرار على السير بالترخيص لستارلينك بالطريقة التي يسير فيها، وما هو الثمن الفعلي الذي سيتحمّله لبنان، وقطاع الاتصالات تحديدًا، من جراء إرساء هذه الصفقة بالشكل الذي يخطط لها. وهذا بصرف النظر عن الشكوك التي لا يزال يثيرها هذا الملف والعقد المقترح مع ستارلينك لجهة حماية بيانات المواطنين أو صون حد أدنى من السيادة الرقمية المطلوبة. فهل تبدَّد هذه الشكوك من خلال مقاربات علمية قانونية، أم يبقى الملف مفتوحًا على إحتمالات إضاعة الفرص مجددًا؟

مصدرالمدن - لوسي بارسخيان
المادة السابقةتخفيض التمويل الأميركي يهدد وظائف منظمة العمل الدولية
المقالة القادمةأرباح ذهبيّة في المركزي: نصف مليار خلال نصف شهر