يتمتّع حكام المصارف المركزية حول العالم بصلاحيات واسعة تصل إلى حدّ الحرية المطلقة في تنفيذ المهام. ومصرف لبنان لا يخرج عن هذا الإطار، بل ضمّنه في قانون النقد والتسليف. والقصد من هذه الصلاحيات، تنفيذ قرارات المجلس المركزي بمرونة. لكن ما آل إليه الوضع السياسي والاقتصادي وارتباط حاكم مصرف لبنان بقضايا الفساد، جعلت من الصلاحيات الموسّعة “ثقلاً” يضغط على الحاكم لأنه الخصم والحَكَم. ولم تستطع السلطة السياسية وما يرتبط بها من مدراء في المصرف المركزي، إنقاذ سلامة.
فلأكثر من ثلاثة عقود، شكّلت الصلاحيات المطلقة للحاكم السابق رياض سلامة، مساحة حرية مكفولة بتقاطع المصالح مع الطبقة السياسية، التي بدورها عزَّزَت مكانة سلامة من خلال التوظيف السياسي للمدراء داخل المصرف. وهؤلاء حاولوا تأمين درعٍ يقي سلامة من نتائج التدقيق الجنائي.
ومع فتح صفحة التدقيق في مصرف لبنان، ورغبة الحاكم بالإنابة وسيم منصوري وضع لمسته الإصلاحية، هل يُستَكمَل الإصلاح بتعديل قانون النقد والتسليف، وتحجيم سلطة الحاكم؟.
الحرية وثقل المسؤوليات
أعطت المادة 26 من قانون النقد والتسليف الصادر عام 1963، صلاحيات كبرى للحاكم. فتنصّ المادة على أنه “يتمتع الحاكم بأوسع الصلاحيات لإدارة المصرف العامة وتسيير أعماله. فهو مكلف بتطبيق هذا القانون وقرارات المجلس. وهو ممثل المصرف الشرعي، يوقّع باسم المصرف جميع الصكوك والعقود والاتفاقات ويجيز إقامة جميع الدعاوى القضائية ويتّخذ جميع الإجراءات التنفيذية أو الاحتياطية التي يرتئيها بما في ذلك التأمينات العقارية. وهو ينظِّم دوائر المصرف ويحدد مهامها. ويعين ويقيل موظفي المصرف من جميع الرتب، وبإمكانه أن يتعاقد مع فنّيين إما بصفة مستشارين أو لمهام دراسية أو لاستكمال تدريب مهني لموظفي المصرف. وليس لسائر ما ورد أعلاه طابع حصري”.
اللافت في هذه الحرية المطلقة المشرّعة قانوناً، أمران، هما تعيين وإقالة الموظّفين، وعدم الحصرية. وتشرح مصادر ذات صلة وثيقة بمصرف لبنان أن عدم الحصرية المقصودة في المادة القانونية، تعني “أن للحاكم مساحة مطلقة واستنسابية في ممارسة مهامه. حتى أن له حرية تنفيذ القرارات التي يتّفق عليها داخل المجلس المركزي للمصرف، بالطريقة التي يراها مناسبة. فللمجلس الموافقة على أمر ما، والحاكم يضع الإطار التنفيذي له”.
الصلاحيات القانونية للحاكم شكّلت ثقلاً في غير صالحه حين اشتدّ الخناق عليه وفُتِحَت في وجهه الملفّات. فالسلطة المطلقة أدانته لأنه يملك بموجبها حرية الحركة في رسم السياسات وتنفيذها ومراقبة تنفيذها ومحاسبة الموظفين المخلِّين. لكنه بدلاً من استعمال الحرية بإيجابية، استعملها بعكس ذلك. حتى أن سلامة “استغلّ التعيين السياسي للمدراء في مصرف لبنان، ليضمن لنفسه حلفاءً”. تقوم المصادر في حديث لـ”المدن”. فالطبقة السياسية التي تحمي سلامة وظَّفَت المدراء وفق المحسوبيات، وهؤلاء دعموا سياسات سلامة انطلاقاً من مصالح مرجعياتهم السياسية. وتجلّت أعلى مراتب الدعم في حجب الملفات عن شركة ألفاريز أند مارسل التي أجرت التدقيق الجنائي بمصرف لبنان. ومع ذلك، لم يستطع أولئك ردَّ نتائج انفجار الأزمة في وجه سلامة لأن ملفّ الحاكم مفتوح أيضاً خارج لبنان.
من ناحية أخرى، لعبت التوظيفات السياسية دورها في زيادة الضغط على سلامة في محنته أمام القضاء المحلّي والخارجي. فبعض المدراء “ساهم في تسريب المعلومات للمرجعيات السياسية التي استغلّتها في معركتها مع سلامة”. ومع ذلك تجزم المصادر أن “عدد هؤلاء ضئيل وحجم تسريباتهم محدودة. والثقل الأساس في هذا الملف جاء من الخارج”.
تعديل القانون غير وارد
يقود منصوري دفّة المصرف المركزي في الوقت الحالي. ومن غير المرتقب الاتفاق السياسي على تعيين حاكم أصيل للمصرف. ولذلك، فإن فترة حكم منصوري ستكون صاخبة على مستوى البلد ككل، ويحاول الرجل التقليل من انعكاساتها السلبية على اسمه. فهو يدرك عمق المأزق الذي وقع به سلامة، وبالصلاحيات الواسعة المعطاة لمن يعتلي عرش المصرف المركزي، يمكن لمنصوري الانزلاق إذا لم يزن خطواته بميزان الذهب. ولذلك، يصرّ على تأمين الغطاء التشريعي لصرف أي دولار من المركزي.
بالتوازي مع حذر منصوري، لا يُطرَح اليوم ملف تعديل قانون النقد والتسليف، سيّما مهام الحاكم وصلاحياته. أي أن الحاكم سيبقى هو القاضي والمتَّهَم. ولا تجد المصادر أن خوض نقاش التعديل ممكن في الظروف السياسية والاقتصادية الحالية، خصوصاً وأن الحاكمية مركزٌ مسيحيٌّ هام في التركيبة اللبنانية، على غرار رئاسة الجمهورية التي لها وزنها المعنوي رغم تقليص صلاحيات الرئيس. فطرح تقليص صلاحيات الحاكم قد يفتح ملف “الغبن المسيحي” في ظروف متوتّرة.
ولأن منصوري يدرك أين يضع قدميه، لا يريد القيام بأي تصعيد حتى وإن كان تحت عنوان الإصلاح. فهناك محاذير لا يمكن تخطّيها بسهولة، إذ تمسُّ جوهر النظام اللبناني. فليس من السهل تحويل عملية كشف ملفات الفساد في المركزي، إلى “بوسطة عين الرمانة” نقدية، ويُحمَل الملف بصيغة أن الشيعة سيطروا على موقعٍ مارونيّ هام.
عاش سلامة ثلاثة عقود رئيساً للهيئة المصرفية العليا، أي القاضي الذي يحاكم نفسه. وفي يده أيضاً التدقيق والتفتيش والتحقيق وإصدار الأحكام التي “لا تقبل المراجعة من أي نوع كانت. وإن كان إلى جانبه أعضاء الهيئة المصرفية العليا، إلا أن الحاكم هو صاحب القرار والسلطة النهائية المطلقة. وهذا كلّه انقلب عليه أخيراً ولم ينفع معه كثيراً دعم مناصريه”.