«مصرف لبنان هو العمود الفقري للثبات المالي والنقدي للبنان»، هذا ما قاله تقرير صندوق النقد الدوّلي في تقريره الدوري عن الإقتصاد اللبناني. هذا التصريح هو بمثابة شهادة للدوّر الكبير الذي قام به مصرف لبنان منذ تبوأ رياض سلامة سدّة الحاكمية وحتى اليوم.
لكن الغريب أنه في لبنان هناك أصوات ما زالت تنتقد الإجراءات التي يقوم بها مصرف لبنان في حين أن مؤسسة عالمية كصندوق النقد الدوّلي لها تاريخ وصدقية في تقييم ومساعدة الدوّل تصلّ إلى هكذا نتيجة.
على كل هذا الأمر يُثبت أن كل الإنتقادات المحلّية الموجّهة لمصرف لبنان ولحاكمه رياض سلامة هي إنتقادات لها خلفيات سياسية ومطامع مناصبية.
لقد كنّت وما زلت كإقتصادي، أدّعم بقوة السياسة النقدية المُتبعة في لبنان نظرًا إلى أن الأرقام التي أقوم بمعالجتها تُشير إلى أنه لا يوجد حاليًا أي سياسة نقدية أخرى ممكن أن تضمّن الثبات المالي والنقدي للبنان كما تفعل السياسة الحالة المُتبعة من قبل مصرف لبنان. وتُشير الحسابات الماكرو-إقتصادية الإحصائية (macro-econometrics) التي قمّنا بها إلى أن أي خلّل في إجراء من الإجراءات التي تنصّ عليها سياسة مصرف لبنان النقدية ستؤدّي إلى إنهيار النظام المالي والنقدي بالكامل. من هذا المُنطلق، تأتي بعض الإقتراحات التي يقوم بها بعض المسؤولين لتدلّ على ضيق الرؤية التي يحكمون من خلالها على هذه السياسة النقدية.
يدعو صندوق النقد الدوّلي مصرف لبنان إلى وقف كل العمليات التي لها علاقة بموازنة الدوّلة اللبنانية ومن بينها عمليات شراء سندات الخزينة وعمليات الـ swaps حيث يرى الصندوق أن ربحية مصرف لبنان تتآكل نتيجة دعمه للدوّلة اللبنانية.
ويُضيف تقرير الصندوق أن هذا الأمر زاد من تعرّض المصرف المركزي إلى دين الدوّلة بأكثر من 68.5% من إجمالي موجودات المصرف المركزي.
ويُضيف التقرير أن السياسة المالية التوسّعية للحكومة اللبنانية فرضت على مصرف لبنان إعتماد سياسة نقدية إنكماشية ما دفع إلى تقليص حجم القروض إلى الإقتصاد المُنتجّ. إلا أن ما لم يذكره التقرير هو أن سياسة نقدية غير إنكماشية لم تكن لتُحسّن من وضع القروض لأن الدوّلة تُنافس القطاع الخاص على أموال المصارف وأن القروض التي تُعطى للقطاع الخاص لا تُستخدمّ بالضرورة في الإستثمارات نظرًا إلى المناخ الإستثماري غير الملائم (تخبّط سياسي، قوانين غير ملائمة…). من هذا المُنطلق قام مصرف لبنان ومنذ العام 2013 بدعمّ مباشر للقطاعات الإنتاجية عبر تخصيصه نصف مليار دولار أميركي سنويًا للمشاريع الإستثمارية في كافة المجالات ونصف مليار دولار أخرى للقروض السكنية. هذه القروض أدّت إلى الحفاظ على نسب نموّ تُضاهي الـ 1% سنويًا على كل الفترة الماضية.
على كلٍ، يُكمل التقرير وصف الواقع بدقّة حين يتحدّث عن أن رفع الفوائد سمح للمصارف بالحفاظ على نسبة ودائع عالية سمحت بدوّرها بالإستمرار بتمويل عجز الموازنة وعجز الحساب الجاري. من هذا المُنطلق يرى صنّدوق النقدّ الدولي أن هناك ضرورة قصّوى لإصلاحات هيكلية في الموازنة بهدف تقليل طلبّ الدوّلة على الأموال. والإصلاحات الهيّكلية التي يقصدها الصندوق هي خفض الإنفاق ورفع الإيرادات، إذ لا يعتبر الصندوق أن خفض الإنفاق وحده كافٍ لضمان وجود إصلاحات هيكلية على الموازنة.
من هنا الدعّوة المزدوجة للصندوق بأن تعمد الحكومة إلى محاربة الفساد ورفع الضرائب بهدف تخفيف العجز في المرحلة الأولى على أن يتمّ العودة إلى التوازن المالي في الأعوام المُقبلة. وبالتحديد وبالحديث عن التوازن المالي، هناك نقص في فهم الرأي العام لما تعنيه عبارة «توازن مالي».
التوازن المالي له شقّين: الأول عجز الموازنة الذي تعتبر المعايير العالمية أنه يجب أن يكون أقلّ من 3% من الناتج المحلّي الإجمالي، وهذا له علاقة مباشرة بإلإنفاق والضرائب في الموازنة. والثاني هو الفائض الأوّلي الذي يلعب دوّرًا أساسيًا في إيرادات الدوّلة وله علاقة مباشرة بالإستثمارات في الماكينة الإقتصادية.
وكما نرى في مشروع موازنة العام 2019، هناك غياب شبه كلّي للشق الإقتصادي من خلال غياب إجراءات تُحفّز الإستثمارات وتُحسّن من بيئة العمل. أضف إلى ذلك أن الشق المُتعلّق بعجز الموازنة لم يأخذ بعين الإعتبار الزيادة «السليمة» (أي كما تراها الأسواق الحرّة) في الإيرادات. بل عمدت الحكومة إلى إٍستخدام وسائل مُخالفة لقوانين السوق مثل قرض الـ 11 ألف مليار ليرة لبنانية بفائدة 1% تُريد تحميلها للقطاع المصرفي!
على كلٍ، الأسواق المالية تقرأ جيدًا تقارير وكالات التصنيف والمؤسسات الدوّلية. فقد إعتبرت هذه الأسواق أن التقارير الأخيرة الصادرة هي رسائل مُوجهة للسلطة السياسية وتعاملت معها على هذا الأساس. وبالنظر إلى سعر سندات الخزينة (5 سنوات) بالدولار الأميركي، نرى أنها لم تتأثر بهذه التقارير، إذ إستمرّ إرتفاع أسعار سندات الخزينة مدعومًا بتصريحات قطرية عن شراء سندات خزينة لبنان بقيمة 500 مليون دولار أميركي إضافة إلى تصريحات حاكم مصرف لبنان الذي أكّد أن كل أموال المُستحقات المالية للدوّلة اللبنانية مؤمّنة هذا العام وأن الإستقرار النقدي مُستمرّ.
يبقى القولّ أن مصرف لبنان وحاكميته يجب أن تبقى بعيدًا عن التجاذبات السياسية لأن التاريخ أثبت أن المؤسسات التي بقيت بعيدة عن التجاذبات نجحت وإستمرّت مثلما فعل رياض سلامة ومثلما فعل قائد الجيش جوزف عون الذي أعاد للمؤسسة كل إستقلاليتها عن التدخلات السياسية.