صندوق النقد يريد فصل الإصلاحات عن المصالح السياسية والانتخابية

تعلّم صندوق النقد من درس الفشل الذريع الذي ألمّ بمهمّته عام 2020، يوم ذهبت سدىً جولاته التفاوضية مع وفد حكومة حسان دياب، وتبيّن له أن الحكومة لا تملك القدرة على فرض خطّة التعافي المالي على أركان النظام السياسي. وعلم الصندوق أن التفاهم التقني مع الوفود الحكوميّة، لا يعني بالضرورة ترجمة هذه التفاهمات في خطوات ملموسة لاحقًا، طالما أنّه يتعامل مع دولة يتعاظم فيها دور مراكز النفوذ المستترة، بما فيها مراكز النفوذ المالي المتضرّرة من شروط خطط التصحيح المالي ومتطلباته، المؤثرة على القرار السياسي في النهاية.
هذا الدرس البالغ الأهميّة، تقاطع مع المباحثات الراهنة قبل أسابيع من الانتخابات النيابيّة، وما يليها من تبدّل في مواقع القرار الحكومي، وانتخابات رئاسيّة لاحقًا. وهنا أدرك الصندوق مجددًا أن مباحثاته مع الوفد الحكومي المفاوض، قد يحتاج تطبيق نتائجها إلى العمل مع أشخاص آخرين في الحكومة المقبلة، مع كل ما يعنيه ذلك من تبدلات في التوجّهات والمصالح التي تقف خلف قرارات السياسيين. ومرّة جديدة استنتج الصندوق أنّه يحتاج إلى ما هو ما أبعد من حرق الوقت مع وفد الحكومة اللبنانية المفاوض: الغطاء المطلوب لتنفيذ الخطة التي يُتفق عليها.

لذا، وبالتوازي مع جولات مباحثاته التي بدأت يوم الأربعاء الماضي، بدأ وفد الصندوق يصرّ في لقاءات السياسيين اللبنانيين، وخصوصًا الرؤساء الثلاثة، لتوفير غطاء سياسي واضح للإصلاحات التي يناقشها على طاولة المباحثات. والغطاء غايته ضمان التزام لبنان تنفيذ الإصلاحات، بمعزل عن المصالح السياسيّة والماليّة التي طالما عرقلت تنفيذها في الماضي. ويحتاج الصندوق هذا الغطاء لتحييد أثر الانتخابات النيابيّة وما يليها من تغيّرات في مواقع القرار الحكومي، وضمان استكمال العمل على خطة التعافي المالي التي يجري التفاهم عليها.

وبعثة الصندوق بحثت في لقاءاتها الرؤساء الثلاثة تفاصيل الإصلاحات، التي أرادت طرحها لاحقًا أمام الوفد الحكومي المفاوض. وهذا لوضع الطبقة السياسيّة أمام الأمر الواقع، والتشديد على طلب التزام سياسي واضح بالإصلاحات على المدى البعيد.

وفي جولته على الرؤساء الثلاثة، أعاد الصندوق التشديد على أهميّة قانون الكابيتال كونترول، في إطار أي خطة تصحيح مالي، وقبل توقيع أي تفاهم مع لبنان. لكن بعثة الصندوق نفت نفيًا قاطعًا أن تكون أعطت ضوءًا أخضر للمسودّة التي أقرتها الحكومة اللبنانيّة كمرسوم مشروع قانون، مشددةً على أن آليّات الكابيتال كونترول يُفترض أن تندرج في التصوّر النقدي والمالي الشامل، الذي يجري التفاهم عليه لاحقًا. ومع ذلك، أكّدت البعثة أن مجرّد إقرار القانون لن يؤثّر على مسار المفاوضات لاحقًا، طالما أن الحكومة ستكون قادرة على تعديل القانون، حسب الصيغة النهائيّة لخطة التعافي المالي.

لكن الجديد في نبرة بعثة صندوق النقد اليوم، هو تشديدها على أهميّة إقرار تصوّر تشريعي متكامل لكيفيّة الدخول في مسار إعادة هيكلة القطاع المصرفي. وهذا يحتاج إلى ورشة تقنيّة بالغة التعقيد، لا إلى مجرّد مراسيم تنظيميّة دوريّة يصدرها مصرف لبنان كما جرى سابقًا. ويؤطد الصندوق أن فرض إطار تشريعي لهذا المسار، قادر على إلزام القطاع والمصرف المركزي معًا بمعايير واضحة، بخصوص ملاءة وسيولة القطاع المصرفي، بعد إعادة هيكلته، لتفادي آليّات عمل حاكميّة المصرف المركزي الغامضة في ما يخص هذا المسار. وأبدى الوفد الكثير من التحفّظ على الآليّات بالتحديد، وخصوصًا لجهة شفافيّتها في التعامل مع ملف إعادة رسملة المصارف.

وفتحت بعثة الصندوق، للمرّة الأولى، ملف إعادة هيكلة المصرف المركزي مع الرؤساء الثلاثة، وطلبت الدخول في ورشة تشريعيّة تفضي إلى تعديل قانون النقد والتسليف، وأدوار مصرف لبنان حاليًا فيها. وحسب البعثة، يفترض حدوث فصل واضح بين مهام المصرف المركزي التنظيميّة والإشرافيّة من جهة، والمهام الرقابيّة من جهة أخرى. وهذا عملًا بنماذج العمل المصرفي والمالي الحديثة المتبعة في الدول الغربيّة حاليًّا. وطلبت بعثة الصندوق أيضًا توسيع هامش عمل لجنة الرقابة على المصارف، وتحييدها كليًّا عن نفوذ حاكميّة مصرف لبنان، لتفادي أي تضارب محتمل في المصالح.

خلاصة الأمر، ما يحتاجه صندوق النقد اليوم من الرؤساء الثلاثة ومن خلفهم الطبقة السياسيّة، يتخطّى حدود الوعود الشفهيّة، ليشمل خطوات ملموسة في الحكومة ومجلس النوّاب، بما يمثّل ضمانة تؤكّد السير بالإصلاحات في المستقبل. وبما أنّ بعثة الصندوق زودت الرؤساء بقائمة الخطوات التي ترغب تحقيقها، ضمانًا لتنفيذ الإصلاحات لاحقًا، فإن الكرة باتت اليوم في ملعب السياسيين، قبل أن تكون في ملعب الوفد التقني اللبناني المفاوض.

مصدرالم
المادة السابقةروسيا ستصدّر الغذاء للدول «الصديقة» فقط بالروبل أو بالعملات الوطنية
المقالة القادمةالقروض الإسكانية عادت… لذوي الرواتب “الخيالية”