تفتح المطالعة التي قدمها النائب العام لدى محكمة التمييز القاضي غسان عويدات، بشأن تقرير شركة الفاريز أند مارسال» حول التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، باباً جديداً من أبواب النقاش حول كيفية التعاطي القانوني مع الارتكابات التي حصلت في مصرف لبنان (التي أوردها التقرير) وأدت الى الانهيار الحالي ومحاسبة الجهة المسؤولة عنها، من دون أن تشكل وسيلة لكسب الوقت والمماطلة يستفيد منها المتهم الاول أي الحاكم السابق رياض سلامة. ما يدفع لأخذ هذه الفرضية بالحسبان هو أن عويدات احال في مطالعته تقرير التدقيق الجنائي (كل بحسب الصلاحية والاختصاص) الى كل من النيابة العامة المالية والنيابة العامة الاستئنافية في بيروت، وهيئة التحقيق الخاصة لاجراء التحقيق واتخاذ ما تراه مناسباً. واكدت مصادر قانونية ان عويدات يطلب التوسع في التحقيقات لتشمل 10 جهات على الاقل ومئات الاشخاص.. فهل الغرض الحقيقة ام كسب الوقت للمنظومة وسلامة؟
في العقد إشكالية كبيرة
المحامي المتخصّص في الشؤون الإقتصادية الدولية الدكتور علي زبيب يقول: «من الناحية القانونية يمكن تقسيم التقرير الجنائي الى اجزاء كونه تقريراً كبيراً جداً وتوزيعه على اكثر من سلطة للنظر فيه، اي نيابة عامة مالية واستئنافية الى آخره. لكني شخصيا اعتقد انه من المبكر الحديث عن تجزئة التقرير الجنائي لعدة أسباب، أولها انه يعاني من اشكالية من حيث الشكل قبل الدخول في الاساس والمضمون»، و يوضح أن «العقد الذي انتج هذا التقرير هو عقد مشوب بعيوب خطيرة جداً، لأنه ينص على ان هذا التقرير لا يمكن استعماله من قبل الدولة اللبنانية من دون موافقة الشركة، ولهذه الاخيرة الحق باسترجاع التقرير وايداع الدولة اللبنانية نسخة جديدة بعد ازالة شعار «الفاريز اند مارسل» عنه، وبعد ازالة كل اشارة تفيد ان هذه الشركة انجزت التقرير الجنائي، يتحول عندها من تقرير جنائي الى تقرير لقيط لا ام و لا اب له».
التدقيق ناقص بفعل التحجج بالسرية المصرفية
ويعتبر أن «الاسوأ ان الدولة اللبنانية أقرت أن هذا التدقيق سري وانه يجب موافقة الشركة على نشره، وان أي جهة تقوم بالادعاء عليها من الاشخاص الواردة اسماؤهم في التقرير، تتكفل الدولة اللبنانية بتغطية مصاريفه واتعابه في هذه الدعاوى سواء رفعت في لبنان أو في الخارج». يرى زبيب أنه «يجب اولا العمل على ابطال البند الوارد في عقد التدقيق الجنائي والذي ينص على عدم جواز استعماله قضائياً دون موافقة الشركة، مشدداً على أن «الهدف الاساسي هو المحاسبة، فاذا كان هناك بند يمنع المساءلة والمحاسبة، باتت كل الاجراءات تعاني من عيب اساسي، اي انه اذا تم انتفاء موضوع العقد يعتبر باطلا». مشيراً الى أن «المضحك المبكي أن التدقيق الجنائي وضع في الاصل للتدقيق في حسابات مصرف لبنان، وقد اقر المجلس النيابي القانون رقم 2000 يوقف فيه العمل بقانون السرية المصرفية المقر في العام 1963 لغايات التدقيق الجنائي، وبالرغم من ذلك تذرع حاكم مصرف لبنان السابق بقانون السرية المصرفية (الذي اوقف العمل به) وحذف جميع الاشارات الى الاشخاص الذين حوّلت اليهم الاموال بصيغة مشبوهة».
يضيف: «هذا يعني انه من الناحية القانونية لدينا تدقيق جنائي منقوص، والطامة الكبرى ان الذي يتعرض للتدقيق أي مصرف لبنان رفض اعطاء الحق لفريق التدقيق الجنائي بالولوج الى صرحه، ولم يطلعوا على البيانات والملفات وأجهزة الكومبيوتر، في المحصلة هو تقرير سيفرغ من مضمونه كونه غير قابل للاستعمال القضائي، وتقرير اصلاً معيوب شكلاً كون الجهة التي وضعت التقرير هي التي قررت ماهية المعلومات التي سترسلها».
و يلفت زبيب الى أن «مصرف لبنان رفض اجراء فريق «الفاريز أند مارسال» مقابلات شخصية مع 49 موظفاً، بل طلب ان تكون المقابلات مع 9 موظفين وحين رفضت الشركة، كان الرد بأنه لن يقبلوا باجراء مقابلات مع اي موظف وارتضوا بأن يقوم 14 موظفاً بمقابلات خطية تمت الاجابة عليها، ولم يقبل المصرف بالسماح لهم باجراء مقابلات استتباعية».
التقرير مستند قانوني لا أكثر
يقول المحامي الدكتور بول مرقص رئيس مؤسسة JUSTICIA الحقوقية والعميد في الجامعة الدولية للأعمال في ستراسبورغ لـ»نداء الوطن» إنه بموجب المادة 5 من العقد المذكور، لا يحق للدولة اللبنانية استعمال التقرير امام القضاء الا بعد موافقة الشركة التي يعود إليها في هذه الحالة وقبل اجازة الاستعمال، الحق في تعديله وتكييفه او حذف اسمها عنه وجعله unmarked»، موضحاً أن «الأمر الذي لا يرقى بهذا التقرير إلى مرتبة اعتماده كونه not reliable بحد ذاته. اي انه لا يمكن الارتكاز إلى صيغة التقرير الذي ارسله وزير المال إلى رئيس مجلس النواب ومن هذا الأخير إلى النواب، حيث جاء في أكثر من فقرة من العقد المذكور تعبير Report on a non-reliance basis، وإن كان هذا التقرير بنظري يمكن الاستفادة منه للمساعدة في إجراء تحقيق جديد أو في استكمال تحقيق قائم. وهو مرتكز حكومي لإجراء إصلاحات في مصرف لبنان او اتخاذ موقف من الحاكم في ما لو كان ما زال في منصبه، او مستنداً للمساءلة البرلمانية للسلطة التنفيذية، أكثر منه أداة محاسبة قضائية بالمعنى التنفيذي المباشر»،لافتاً الى أن «التصرف بالتقرير دون التنسيق مع الشركة قد يعرض الدولة لمنازعة معها وطلب التعويض. علماً ان مجلس شورى الدولة كان قد اعتبر انه يجوز الاطلاع على التقرير والبناء عليه متجاوزاً القيود المذكورة وكذلك فعل وزير العدل مخاطباً النيابة العامة للتحرك».
مطالعة عويدات
وفي ما يلي بعص ما جاء في مطالعة عويدات: بالعودة إلى ما تضمنه التقرير التمهيدي ولا سيما الجداول المدرجة فيه يتبين أنها تشير الى احتمال اجراء تحقيقات اضافية من شأنها التأثير على النتائج، وذلك في حال الإستحصال على معطيات إضافية أو حصول مستجدات بينها توسعاً في التحقيق.
– ففي ما خص الهندسات المالية وجدت شركة التدقيق ان كلفتها مرتفعة جدا بسبب الفوائد المرتفعة والعلاوات التي تم تسديدها عند شراء سندات خزينة وتجديد الإيداعات لدى مصرف لبنان وفارق سعر الصرف، وحددت الكلفة بحوالى 115 تريليون ل.ل بما فيها علاوات بقيمة 30 تريليون ل.ل في حين حدد مصرف لبنان هذه الكلفة بمبلغ حوالي 85 تريليون ل، ل، مع الإشارة إلى أنه لم يكن هناك قيود على حاكم مصرف لبنان في تنفيذ الهندسات المالية ولم تخضع تلك الهندسات لأي رقابة لاحقة ولا لأي دراسة جدوى.
- حساب العمولات: تم تحويل مبلغ 111.3 مليون دولار من حساب العمولات لدى مصرف لبنان إلى حسابات مصرفية مفتوحة لدى ستة بنوك وحساب مصرفي سويسري وقد تمت تغذية هذا الحساب من العمولات على الهندسات المالية.
– فيما خص حسابات حاكم مصرف لبنان: بين الأعوام 2015 و2020 حول رياض سلامة مبلغ وقدره 98.8 مليون دولار من حساباته لدى مصرف لبنان إلى حسابات في كل من سويسرا والمانيا وفرنسا واللوكسمبورغ والمملكة المتحدة وداخل البلاد بمعدل16.5 مليون دولار سنوياً.
- ارتفعت كلفة تشغيل مصرف لبنان من 38.7مليار ليرة للعام 2016 الى 63 مليار ليرة لبنانية في العام 2020، وكان حساب المساعدات والهبات هو أكبر مستفيد من هذه الزيادة يليها حساب الصيانة وحساب تسويات عن السنوات السابقة وحساب التدريب والمؤتمرات وحساب الإعلان…
- لم يقدم مفوض الحكومة التقرير السنوي الملزم بتقديمه عن حالة مصرف لبنان.
– في ما خص كيفية استعمال احتياطيات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية بين الأعوام 2010 و 2021 تم استعمال الإحتياطي على:
ديون كهرباء لبنان 18 مليار دولار، تحويلات كهرباء لبنان 543 مليون دولار، وزارة الطاقة 6 مليارات، ديون القطاع العام 235 مليون دولار، تحويلات لزوم القطاع العام 8 مليارات دولار، تمويل الدعم 7 مليارات، كلفة حركة اليوروبوندز 7 مليارات دولار، مدفوعات مصرف لبنان 470 مليون دولار
وخلص التقرير التمهيدي إلى القول بوجوب إجراء تحقيقات إضافية في الأمور التالية:
1 – الموافقات الداخلية الممنوحة للدخول في معاملات الهندسة المالية مع بعض المؤسسات وتبيان الأساس العقلاني وراء معدلات القسائم وأسعار الفائدة والمبلغ والشروط التعاقدية الممنوحة.
2 – تحديد المستفيد النهائي من المدفوعات التي تمت من حساب الإستشارات ومبررات العمولات المدفوعة على معاملات الهندسة المالية.
3 – المبررات والموافقات على مصروفات البنك المركزي.
4 – الغرض من عدد المعاملات العقارية وظروف الحصول على الموافقة والدفع للممتلكات والنفقات ذات الصلة.
5 – تحديد مصدر ووجهة الأموال التي تمر عبر حسابات الحاكم
بناء عليه: بما أنه ورد في التقرير التمهيدي المتعلق بالتدقيق في الهندسات المالية التي اعتمدها البنك المركزي، وعمليات الإستفادة من تقديمات إما شخصية من الحاكم، وإما من الأموال المودعة، كما تضمن التقرير بنداً يتعلق بتوزيع أموال من حساب العمولات التي تمت تغذيته من الهندسات المالية، وكذلك اموال وزعت على مؤسسات عامة وصرفت على مشاريع تتعلق بادارات الدولة وغيرها، فيقتضي اجراء التحقيقات اللازمة في هذا الخصوص لتبيان الحقائق.
وبما انه ورد في التقرير التمهيدي أن مبلغاً يقدر بحوالى 111 مليون دولار قد تم توزيعه على اشخاص مختلفين، لم يؤت على ذكر اسمائهم فيقتضي تبعاً للملف العالق أمام حضرة قاضي التحقيق الأول في بيروت بالإنابة المتعلق برياض سلامة ورفاقه وشركتي فوري واوبتيموم وغيرها، أن يشمل التحقيق هذه الواقعة لتبيان هوية الأشخاص أو المؤسسات الذين استفادوا من هذه التقديمات، والأسباب الكامنة وراءها ومدى ارتباطها بشركتي فوري وأوبتيموم أو بالحسابات المرتبطة بها وتحديد المعايير المعتمدة.
وبما أن التقرير أشار إلى استفادة موظفي المصرف المركزي وغيرهم من الجمعيات والأشخاص من تقديمات دون رقابة مسبقة ولا لاحقة، وبما ان التقرير التمهيدي هذا غير النهائي هو غير كاف وغير شامل والتحقيقات الاولية التي سبق لنا واقمناها في دائرتنا تطرق التقرير لبعض منها كما تطرق لبعض ما جاء في التحقيقات الأوروبية وما نفذناه من المساعدات القضائية. وبما أنه يستشف من تقرير الفاريز أند مارسل ان أعضاء المجلس المركزي انصاعوا لأوامر واغراءات وحوافز الحاكم السابق، ولم يقوموا بواجباتهم الوظيفية فيقتضي التوسع بالتحقيق معهم توصلاً لوصف افعالهم.
وبما أنه يستشف أيضا من التقرير التمهيدي أن شركات التدقيق لم تقم بواجباتها، لإعطاء صورة حقيقية عن الوضع المالي وبيان حقيقة الأزمة المالية في المصرف المركزي، فيقتضي التحقيق مع كل الشركات التي تولت هذه المهمة توصلا لمعرفة الحقيقة.
وبما أنه يستشف من التقرير أن لجنة الرقابة السابقة على المصارف لم تواكب العمليات المجراة اللاحقة على سياسة المخاطر في المصارف المحلية مما ساهم في خسارة أموال المودعين، فيقتضي التحقيق في تصرفاتهم توصلاً لمعرفة الحقيقة.
وبما أن التقرير سلط الضوء على وقائع وأفعال مختلفة تدخل ضمن صلاحيات عدة أجهزة قضائية ورقابية وتشريعية ومؤسسات مالية مشيراً إلى تقاعس الأجهزة الرقابية في عملها، لذلك نقرر وفي مرحلة أولى احالة مطالعتنا الى كل من النيابة العامة المالية والنيابة العامة الإستئنافية في بيروت، وهيئة التحقيق الخاصة للتفضل بالإطلاع وإجراء التحقيقات اللازمة كل ضمن إختصاصه وصلاحياته وإتخاذ ما يرونه مناسبا.
مجلس النواب بواسطة وزير العدل/ ديوان المحاسبة/ التفتيش المركزي /غسان منيف عريدات / 22 آب 2022
زبيب: في العقد مع شركة «الفاريز اند مارسال» بند يمنع الاستناد الى التدقيق الجنائي لرفع دعاوى قضائية…
فما هو فاعل عويدات بذلك؟
مدعي عام التمييز يطلب التوسع في التحقيقات لتشمل 10 جهات على الأقل ومئات الأشخاص… فهل الغرض الحقيقة أم كسب الوقت للمنظومة وسلامة؟
مرقص: يمكن الاستفادة من التقرير الجنائي للمساعدة في إجراء تحقيق جديد أو في استكمال تحقيق قائم… أكثر منه أداة محاسبة قضائية بالمعنى التنفيذي.