قبل بضعة أسابيع طلب مصرف لبنان من المصارف تزويده بمعلومات مفصّلة عن الودائع لا تشبه التفاصيل التي كانت المصارف تقدّمها سابقاً. بحسب مصادر مطلعة، فإن الهدف منها تقديم صورة واضحة عن المودعين بخلفية اقتصادية واجتماعية، من أجل تحديد الأولويات في أي خطّة مقبلة، وستُستعمل الأرقام الناتجة من هذا الإحصاء في رسم صورة أوضح للخطّة التي يعمل عليها مصرف لبنان بشكل منفصل عن تلك التي يعمل عليها الفريق الحكومي بقيادة مستشار رئيس الحكومة نقولا نحّاس.وبحسب المراسلات المبلّغة للمصارف، فإن مديرية الإحصاءات والأبحاث الاقتصادية طلبت من المصارف إعداد جداول تفصيلية بالودائع تقسّم إلى ليرة ودولار. تلك المتعلقة بالدولار لا يجب أن تشمل الدولارات الجديدة التي أتت إلى القطاع بعد 17 تشرين الأول 2019، أي إنها تحصر الأرقام المطلوبة بالودائع المصنّفة قديمة أو المتعارف عليها تحت اسم «لولار». وتتوزّع الإحصاءات المطلوبة على 25 شطراً للودائع تبدأ بـ «أقلّ من 3 آلاف دولار» أو «أقلّ من 75 مليون ليرة» وتنتهي بـ «أكبر من 100 مليون دولار» أو «أكبر من 150 مليار ليرة». سيتم ذكر عدد الزبائن في شطر وتصنيفهم بين مقيم في لبنان وغير مقيم. سيكون هناك 15 خانة مخصّصة للفئات على النحو الآتي: الأفراد، المغتربون، موظفو القطاع الخاص، موظفو القطاع العام، النقابات، جمعيات خيرية، ودائع صندوق الضمان الاجتماعي والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع، ودائع السفارات الأجنبية وودائع المنظمات العربية والإقليمية والدولية، الشركاء، شركات غير مالية، المؤسسات التعليمية، المؤسسات الطبية، مؤسسات القطاع العام، ودائع منشؤها عقود ائتمانية، القطاع المالي غير المصرفي.
في كل شريحة وتصنيف، ستسجّل في الخانات المحدّدة أربعة مسائل أساسية:
– الفوائد المسجّلة ابتداء من تموز 2015.
– حجم الأموال المحوّلة من العملة اللبنانية إلى العملة الأجنبية ابتداءً من 31/10/2019.
– حجم الأموال المحتجزة والواجب دفعها بموجب التعميمين 158 و166.
– العمر فوق الـ64 عاماً.
يفترض أن تسهم هذه المعطيات التي بدأ يجمعها مصرف لبنان منذ نحو شهرين ونصف الشهر، في تقديم صورة وافية عن الودائع بجزء أساسي من مكوّناتها الاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي تقول مصادر في مصرف لبنان، إن «رسم الأولويات وتحديدها يتطلب مثل هذه المعطيات من أجل تسهيل اتخاذ القرارات وتوجيهها في ما يتعلق بأي خطّة لإعادة هيكلة القطاع المالي». فالتقديرات بشأن هذه الخطّة، لا يمكن أن تبنى على أرقام وبيانات غير دقيقة، كما أنه لا يجب أن تكون البيانات مبنية على أفكار معلّبة مثل تلك التي تُطرح اليوم. فما هو التفسير بأن تصنّف الودائع مؤهلة وغير مؤهلة وأن تحصل الأولى على ضمانة بقيمة 100 ألف دولار لكل وديعة، بينما الثانية تكون 36 ألف دولار لكل وديعة؟ من قرّر اتخاذ هذا القرار وعلى أي أساس؟ في الواقع، ليست هناك إجابات واضحة على لسان المسؤولين، سوى أن القطاع لا يمكن أن يتحمّل ضمانة مبلغ أكثر من هذا، حتى إن هذا المبلغ كبير جداً وقد يفوق قدرة تحمّل القطاع. غير أن تحديد الأولويات وفقاً لشطور مالية فقط، ليس مجرّد رؤية ناقصة، بل رؤية معيبة تتعامل مع المجتمع والاقتصاد باعتباره أرقاماً لا حياة فيها وكأنها ليست شبكة متصلة ببعضها البعض. ودائع الضمان مثلاً، ليست مجرّد أرقام، بل هي مجموع تعويضات نهاية الخدمة لأكثر من 500 ألف أسرة، إضافة إلى أن جزءاً منها هو أموال كان الصندوق يستعملها من أجل تمويل الطبابة في المستشفيات وفي العيادات الخاصة وشراء الأدوية والفحوصات المخبرية وسواها من الأعمال الطبية. وبالتناسب أيضاً، إن ودائع العاملين في القطاع العام يجب التعامل معها بشكل مختلف عن ودائع العاملين في القطاع الخاص، ولا سيما عند المقارنة بين الشرائح. فالشرائح العليا قد لا تكون مبرّرة باعتبارها تعويضات نهاية خدمة أو مدخرات، بينما الشرائح الأدنى قد تكون هي كل ما كان يملكه هذا الأجير أو المتقاعد. في النقابات، المسألة تختلف بين النقابات العمالية مثل الاتحاد العمالي العام والاتحادات الأصغر، وبين النقابات التي أسّستها لوبيات أصحاب العمل من أجل تكريس موقع نفوذ أفضل في بنية هرم الاقتصاد السياسي في لبنان، بما يتيح لها تحقيق أرباح أكبر…
في الواقع، قد لا تكون هذه التصنيفات كافية لقراءة البنية الاجتماعية والاقتصادية للودائع، لكنها تقدّم فكرة واضحة عنها. لكن ما لم يذُكر بشكل واضح في هذه التصنيفات، أنه سيتم حصر الأموال التي لا مالك فعلياً لها، أو تلك التي تعود إلى مودعين من جنسيات غير لبنانية هرّبت الأموال إلى المصارف اللبنانية للاستفادة من السرية المصرفية بشكل أساسي، وللتهرّب من تسديد الضرائب بشكل ثانوي، ثم للاستفادة من الفوائد المرتفعة في لبنان. يمكن القول، إن من بين المعايير المطروحة للتعامل مع الودائع، هو «إثبات مصدرها»، وقد استحوذ هذا المعيار على جدل واسع، إذ اعتُبر أنه يهدّد فئة معينة من اللبنانيين لكن اتضح أن هذه الفئة لن تكون مطالبة سوى بإبراز فواتير أو إثباتات مادية عن أعمالها من دون أي إضافات قد ترتبط بمشروعية نقل الأموال إلى لبنان. وهذا الأمر ينطبق على فئة واسعة من اللبنانيين العاملين في أفريقيا. لكن هذا المعيار، قد يصيب الكثير من الودائع التي هُرّبت من العراق والأردن وسوريا وليبيا وسواها، إذ أتت إلى لبنان وأودعت في حسابات لا تحمل أسماء بل أرقاماً. وقد سبق للمصارف اللبنانية أن طولبت بهذه الودائع، وطلبت لوائح طويلة من الإثباتات لم يستطع المطالبون تقديمها، رغم علم الطرفين، أي المصرف والمودع، بأن ملكية هذه الودائع صحيحة وتعود إلى من يُطالب بها.