تعيش وفاء ح. (48 عاماً) على بعض المساعدات من أفراد عائلتها. إذ تعرضت لإصابة خلال عملها بأحد المعامل الخاصة، ما جعلها غير قادرة على العمل مجدداً لساعات طويلة.
تقول لـ”المدن”: “أعمل بنظام الساعات بمعدل 5 ساعات يومياً، وأتقاضى مقابل كل ساعة عمل نحو 75 ألف ليرة، ما يعني شهرياً نحو 7 ملايين و500 ألف ليرة، وهو مبلغ غير كاف لتأمين الاحتياجات الخاصة والنفقات اليومية”.
لجأت وفاء ح. إلى إحدى مؤسسات الإقراض الخاصة، بعدما تعذر عليها شراء بعض المستلزمات الطبية، مقابل رهنها لمجوهرات على أن تقوم بتسديد ثمن الرهن لمدة 6 أشهر.
سوق مواز
تتشابه قصة وفاء ح. مع قصص الكثير من اللبنانيين، الذين وقعوا تحت تأثير الديون، بعدما عجزوا تماماً عن تأمين لقمة العيش، فأصبحت المؤسسات الخاصة المعنية بتقديم القروض ملاذهم الأخير، خصوصاً وأن المصارف اللبنانية توقفت تماماً منذ العام 2019 عن تقديم القروض.
تشير الإحصاءات الأخيرة الصادرة عن مصرف لبنان عام 2017، وهي آخر إحصاءات رسمية، إلى أن معدل ديون الأسر اللبنانية وصل إلى أكثر من 21.5 مليار دولار، أي أكثر من 40 في المئة من مجمل الناتج المحلي. في الوقت الحالي، ورغم غياب أي دراسات إحصائية رسمية حديثة، نتيجة توقف المصارف أصلاً عن تقديم القروض، فإن الأرقام قد تبدو صادمة، خصوصاً إن قارنا معدل الأجور الحالي مع التكاليف الاستهلاكية اليومية. ويمكن القول بأن الأسرة تقترض ما لا يقل عن 15 مليون ليرة شهرياً لتسديد النفقات العامة، إذا افترضنا أن معدل الاستهلاك الشهري لعائلة مؤلفة من أربعة أشخاص يحتاج ما لا يقل عن 55 مليون شهرياً، وفق تقديرات مؤسسة numbeo.
من أين تأتي الأموال؟
مصدران رئيسيين تعتمد عليهما الأسر اللبنانية اليوم، كجزء أساسي لسد احتياجاتها. أولاً: الاقتراض من المؤسسات التابعة للأحزاب أو القوى السياسية والتي تنتشر بشكل لافت في العديد من المناطق على غرار “القرض الحسن”، والتي تقوم على أساس الرهن أو المقايضة. أما المصدر الثاني، فهو الاقتراض الشخصي، من الأصدقاء وأفراد العائلة. وفي كلا الحالتين، فإن النتائج سلبية. إما تؤدي إلى خسارة العائلات بعض المقتنيات الثمينة نتيجة الرهونات، وتعثرهم في سداد القروض، أو تؤدي إلى حدوث مشاكل بين أفراد العائلة.
القروض للاستهلاك؟
تشير قصص العديد من اللبنانيين، إلى أن لجوئهم إلى الاقتراض جاء بدفع تسديد النفقات الاستهلاكية بالدرجة الأولى، وهو ما يخالف أصلاً مبدأ القروض بشكل عام، والقائم على أساس التنمية الاقتصادية، وتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، حتى أن الأزمة الحالية، لم تمنع المصارف من فتح باب خاص للقروض الشخصية. تشير الإعلانات الحالية إلى أن المصارف سمحت بالقروض الشخصية، والتي تبدأ من 2000 دولار إلى نحو 50 ألف دولار، وفق شروط تعجيزية، ورسوم مرتفعة تصل إلى 100 دولار لكل ألف دولار.
تجار الأزمة
سياسة القروض الحالية المتبعة من قبل بعض المؤسسات الخاصة أو الشروط التعجيزية والتكلفة المرتفعة، خلقت سوقاً موازياً للقروض، من خلال ما يشبه تجار القروض، الذين يقومون بأقراض المواطنين مبالغ مالية لا تتعدى 1000 دولار، مقابل إما الحصول على شيكات مصرفية، أو رهن منازل وعقارات.
اضطر المواطن محمد فخر الدين إلى الاقتراض لتأمين المتطلبات اليومية لعائلته بعد انهيار سعر الصرف، وحجز المصرف على ودائعه. ولذا، لم يكن أمامه سوى بيع جزء من حسابه المقفل في المصارف، مقابل مبلغ مادي بسيط. يقول لـ”المدن”: “تخليت عن 10000 دولار مجمدة مقابل 1000 دولار فريش، من أجل تسديد ديون لإحدى المؤسسات المعنية بتقديم القروض، بعدما عجزت عن فك رهن مجوهرات زوجتي”. يضيف: “اضطررت إلى رهن مجوهرات زوجتي لتأمين المصاريف اليومية، تسديد إيجار البيت، ودفع تكاليف الفواتير اليومية”. يؤكد فخر الدين على انتشار فكرة القرض مقابل الرهن بشكل كبير ضمن محيطه الاجتماعي. إذ يلجأ الكثير من المواطنين إلى رهن الذهب، السيارات، وحتى رهن شيكات مصرفية، وبيعها بثمن بخس، خصوصاً وأن الكثير من العائلات باتت غير قادرة فعلياً على تأمين الطعام، والاستشفاء.
لا تبديل في السياسات
قبل العام 2019، شجعت السياسات المصرفية المتخذة في لبنان على التوسع في الدين. إذ قامت السياسة النقدية على أساس إغراق اللبنانيين بالديون وتحديداً الاستهلاكية، فكانت السياسات المتبعة من المصرف المركزي، لا سيما عبر دعم فوائد القروض السكنية وتحويلها إلى ما يشبه الحاجة الاجتماعية والمعيشية، قائمة وبقوة في الاقتصاد اللبناني، حتى أن المصارف شجعت في السابق على القروض الخاصة لشراء السيارات، أو قروض التعليم، وبشكل يغرق الاقتصاد اللبناني في دائرة مفرغة من الديون. حتى مع الأزمة الحالية، ومع عودة القروض الإسكانية من جديد على سبيل المثال، تظهر بأن القيمين على السياسة النقدية في لبنان لا يزالون يتبعون المنهج الخاطئ نفسه، وإغراق اللبنانيين بالمزيد من الديون.