عام مرّ على لبنان منذ اندلاع الحرب تدريجياً عقب عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول من العام 2023. عام لم يشبه أي من أعوام الحروب والأزمات التي مرت بلبنان، تلقى خلاله اقتصاد لبنان ضربة قد تكون القاضية. فقد أتت الحرب مع إسرائيل لتتوّج الإنهيار الذي بدأ منذ خمس سنوات، وتُرفقه بخسائر هائلة لم يتضح حجمها الحقيقي حتى اللحظة.
بات واضحاً أن عُمق الأثر الذي ستتركه الحرب القائمة حالياً على الاقتصاد اللبناني ستفوق كثيراً ما خلّفته حرب الأيام الـ33 في تموز عام 2006. فالظروف الاقتصادية والاجتماعية للبلد مختلفة تماماً. ومن دون الدخول في مقارنة ظروف لبنان في ظل الحربين، لكن لا بد من التذكير سريعاً أن البلد في العام 2006 لم يكن يعاني من فراغ في سدة الرئاسة أو السلطة التنفيذية، وأن اقتصاد لبنان كان يحقّق آنذاك نمواً مقبولاً، وكان قطاعه المصرفي في عزّ فورته وتوسّعه، والأهم كانت أموال المودعين متاحة لهم، باختصار لم يكن الاقتصاد اللبناني منهاراً قبل حرب تموز 2006.
وليس هذا فحسب، فالخسائر التي نجمت عن حرب تموز 2006 بين مباشرة وغير مباشرة بلغت قرابة 5 مليارات دولار أي ما يوازي نحو 10 في المئة من الناتج المحلي في ذلك الوقت. وليست الإشارة هنا لحجم تكلفة الحرب، إنما لقدرة الاقتصاد اللبناني على استعادة نشاطه من جديد، لاسيما أن الدعم المالي والإنساني كان سخياً إلى حد ما على لبنان من قبل الدول المانحة والدول العربية والمنظمات الدولية. أما اليوم فأي اقتصاد سيتحمّل تكلفة الحرب؟ وأي دعم مالي سيحصّله لبنان في مرحلة يعاني فيها العالم من أزمات اقتصادية وتضخم وركود وحروب ونزاعات؟
حرب يسبقها انهيار
لا يمكن تقدير الخسائر التي ستخلّفها الحرب القائمة ما لم نأخذ بالإعتبار الوضع الاقتصادي والمالي للبلد عشية اندلاع الحرب؛ بمعنى آخر، لا يمكن فصل الأزمات الاقتصادية والمالية والنقدية التي يعاني منها لبنان منذ عام 2019 عن ما يمكن أن تخلفه الحرب اليوم.
يواجه لبنان اليوم تحدّيات اقتصادية غير مسبوقة، فالبلد الذي يعاني أزمة مالية وُصفت من بين الأخطر في العالم، تشهد عملته الوطنية انحداراً بقيمتها يفوق 90 في المئة، يواجه تراكماً مستمراً للتضخم وارتفاعاً بأعداد الفقراء تفوق 47 في المئة من عدد سكانه، تبلغ خسائر قطاعه المصرفي نحو 73 مليار دولار، أموال مودعيه محجوبة، الإحتياطات الدولارية في مصرفه المركزي تضاءلت إلى حدودها الدنيا وناتجه المحلّي تقلّص بنسبة تقارب 70 في المئة… باختصار، دخل لبنان بكل ما يعاني من أزمات حرباً يصعب التصوّر حالياً كيف سيخرج منها أو إن كان سيخرج منها فعلاً.
خسائر واستنزاف
منذ بداية الحرب خلال النصف الأول من شهر تشرين الأول 2023 ووصولاً إلى توسّع نطاقها في النصف الثاني من شهر أيلول 2024، وقعت الأضرار المباشرة وغير المباشرة تدريجياً بدءاً من الجنوب ووصولاً إلى كامل مساحة البلد، لكن لا يوجد حتى اللحظة مسح جغرافي للأضرار، كما لا يمكن إجراء مسح دقيق لاسيما أن وتيرة الحرب لا تزال بحال تصاعد.
لكن تشير التقديرات إلى ترجيح ارتفاع تكلفة الحرب إلى ما يزيد عن 15 مليار دولار أو ما يفوق نصف الناتج المحلي، فالخسائر طالت الغالبية الساحقة من القطاعات الاقتصادية المنتجة منها والخدماتية، وثمة خسائر مباشرة وأخرى غير مباشرة، تُضاف إلى الخسائر البشرية الهائلة.
على مستوى الزراعة والصناعة فقد مني القطاعان بخسائر لم تتمكن السلطات الرسمية، وغير الرسمية، من تحديدها حتى اللحظة باعتبار ان الخسائر التي يتوقع أن تلحق بالاقتصاد اللبناني عموماً منذ منتصف شهر أيلول الفائت، حين استع نطاق الحرب وطال القصف الإسرائيلي العديد من المناطق اللبنانية، قد تزيد عن كل ما تكبّدته القطاعات على مدى الأشهر السابقة.
وقد قدّرت بعض المؤسسات الدولية والمحلية الخسائر الزراعية منذ بداية الحرب حتى ما قبل توسّعها، بنحو 17 مليون متر مربع من الأراضي الزراعة كما تضرّرت مواسم الزيتون والتبغ وعموم الزراعات في الجنوب والبقاع ناهيك عن احتراق الآلاف من أشجار الزيتون. كما تشير التقديرات إلى انكماش القطاع الصناعي بما يزيد عن 50 في المئة. ما يوقع خسائر بمليارات الدولارات بين الزراعة والصناعة.
أما القطاع السياحي الذي يُدخل إلى البلد ما يقارب 7 مليارات دولار في سنوات السلم، فإنه تعرّض لانهيار تام في صيف العام 2024 وخسر ما يقارب 90 في المئة من إيراداته.
كما لا يمكن تجاوز الخسائر التي لحقت بسوق العمل وخسارة شركات ومصانع ومعهم مئات الآلاف من اللبنانيين الذين خسروا وظائفهم، ما يهدّد فعلياً الاستقرار الإجتماعي على مدى سنوات مقبلة. ولا ننسى رزوح لبنان تحت أزمة نزوح تتجاوز كل مقدراته الاقتصادية حتى في أوقات السلم، فالبلد يستقبل قرابة مليوني نازح سوري وهي النسبة الأعلى في العالم بالمقارنة مع عدد السكان.
خسائر الحرب الكبرى
وعلى الرغم من كل تلك الخسائر إلا أن الأسوأ لم تتّضح أرقامه بعد، وهو ما ستنتجه الحرب بعد اتساع نطاقها في أيلول الفائت، وشمولها الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية ومناطق أخرى كالشوف والمتن.
فالآلاف من الوحدات السكنية المدمّرة تضاعف عددها ولا يمكن تحديدها حالياً بسبب استمرار القصف الإسرائيلي، وقد ترافقت مع أكثر من مليون و200 ألف نازح لبناني داخل البلد وتدمير للبنى التحتية والقطاعات الإنتاجية في المناطق المستهدفة، بالإضافة إلى عجز الدولة عن تأمين معيشة النازحين من مراكز للإيواء إلى الغذاء والتعليم والاتصالات والمياه وكافة مقوّمات الصمود.
بالمحصلة تقف الدولة اللبنانية اليوم أمام كارثة متعدّدة الأبعاد من أزمة مالية إلى حرب تدميرية ونزوح جماعي وخسائر مالية لا تحصى، ومخاطر إغلاق المنفذ البحري بعد تعطيل نسبي للمنافذ الجوية والبرية، ولا تُدرك اليوم كيفية وتوقيت الخروج من هذه الحرب.