حتّى صبيحة امس الجمعة، كانت الأمور قد وصلت إلى حائط مسدود على جميع المستويات: نوّاب الحاكم يتّجهون لرفض تقديم أي تمويل بالعملات الأجنبيّة، من خارج عقد القرض الذي يطلبون توقيعه مع الدولة اللبنانيّة. ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي ما زال عند موقفه الرافض لتمرير مسودّة مشروع قانون بهذا الشأن، في مجلس الوزراء، فيما يرفض رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي تمرير القانون في المجلس، إلا إذا جرت إحالته من قبل الحكومة. وعلى هذا الأساس، ستتجه الدولة اللبنانيّة ابتداءً من يوم الإثنين إلى أزمة ماليّة شاملة، بعدما نفذت السيولة الموجودة بتصرّفها في مصرف لبنان.
الأخطر من كل هذا، هو التحليلات القانونيّة التي بدأت تظهر من هنا وهناك، والتي بدأت بالتصويب على مخاطر الآليّة التي يطلبها نوّاب الحاكم، للتمكّن من تقديم التمويل للدولة اللبنانيّة. وهذه المخاطر تبدأ أوّلًا من تطبيع آليّة قانونيّة هجينة لتنظيم علاقة المصرف المركزي بالدولة، وتنتهي بالمخاوف المرتبطة بمصير المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والدائنين الأجانب. في خلاصة الأمر، وحتّى لو كان نوّاب الحاكم يعملون بنيّة حسنة في هذا الملف، ثمّة ما يكفي من مؤشّرات للقلق من تداعيات المقاربة التي ينتهجونها مؤخّرًا.
هواجس قانونيّة وضرب استقلاليّة المصرف المركزي
في قانون النقد والتسليف، آليّة اقتراض الدولة من المصرف المركزي واضحة جدًا. فالمبدأ، بحسب المادّة 90، هو أن لا يمنح المصرف المركزي قروضًا للقطاع العام. إلا أنّه وفي الظروف الفائقة الخطورة، بحسب المادّة 91، يمكن للحكومة أن تطلب قرضًا من هذا النوع، وبحسب حاجتها وقيمة التمويل التي تنقصها، ومن واجب المصرف المركزي هنا –بحسب المادّة نفسها- أن يقترح وسائل بديلة تستبدل مساعدته بوسائل أخرى. وفقط إذا أصرّت الحكومة، وفي حال عدم وجود خيار آخر، يمكن أن يمنح المصرف المركزي القرض المطلوب بموجب عقد خاص، وبعد اتخاذ التدابير التي من شأنها الحد من عواقب هذا القرار.
بصورة أوضح، وضمانًا لاستقلاليّة المصرف، على طلب الاقتراض أن يكون الاستثناء الصريح، في حين أنّ القاعدة هي أن لا يحصل هذا الاقتراض. وبحسب القانون، على القرض أن يأتي نتيجة لطلب الحكومة وإصرارها، مقابل تمنّع المصرف المركزي إلى أقصى حد، لا العكس.
وروحيّة القانون هنا، تأتي انطلاقًا من فهم المشرّع لأهميّة الفصل ما بين السياسة النقديّة والسياسة الماليّة، ولضرورة حصر العلاقة الماليّة بين الحكومة والمصرف المركزي، وتاليًا حصر اعتماد الحكومة على تمويل المصرف، بشكل واضح وصريح. وبما أنّ القانون ينص على “إمكانيّة” منح القرض من قبل المصرف المركزي، فالقرار النهائي هنا هو للمصرف، فيما تقتصر صلاحيّة الحكومة على “الطلب”.
نص قانوني صريح وملتبس
ما يطلبه نوّاب الحاكم اليوم يذهب بالاتجاه المعاكس تمامًا، وبالوجهة المناقضة لروحيّة قانون النقد والتسليف. فآليّة عقد القرض المقترحة، تبدأ بالتشريع الذي يفترض أن يقرّه المجلس النيابي، بموجب مشروع قانون يقدّمه النوّاب، أو مرسوم مشروع قانون تتقدّم به الحكومة، وبما يلزم المصرف المركزي بتأمين هذا التمويل. وبينما يحاول نوّاب الحاكم رفع المسؤوليّة عنهم بخصوص قرار استعمال الاحتياطات، أو هذا ما يقوله النائب الأوّل على الأقل، ستؤدّي هذه الآليّة إلى تطبيع ضرب استقلاليّة المصرف المركزي بنص قانوني صريح وملتبس في آن.
أمّا الأخطر، فهو أنّ آليّة الاقتراض هذه لا تأتي من ضمن موازنة مدروسة، تحدد الإيرادات والنفقات بالعملة المحليّة بشكل واضح، ليتم على أساسها تحديد قيمة التمويل المطلوب خلال الأشهر الستّة المقبلة. بل وعلى العكس تمامًا، ستأتي هذه الخطوة كإجراء فوضوي يكرّس العبثيّة التي حكمت إدارة المال العام خلال السنوات الماضية، ما سيعني تبديد الاحتياطات من خارج أي رؤية ماليّة تصحيحيّة واضحة.
أمّا السؤال الأهم، فهو عن سبب عدم تقديم هذا التمويل بالليرة اللبنانيّة، أي العملة التي يتحكّم بقيمتها وكتلتها النقديّة –أو هكذا يفترض على الأقل- المصرف المركزي، بعد إنجاز الموازنة المتكاملة. وهذا الخيار، يبقى أسلم وأضمن من إعطاء الدولة صك للإنفاق بالعملة الصعبة، التي يفترض أن يتم تقنين استعمالها في ضوء السياسة النقديّة وحدها، لا الماليّة.
أمّا بالنسبة إلى نفقات الدولة بالعملة الصعبة، فحله هو في السياسة النقديّة وحدها (كما أشرنا في مقال سابق). فعندها، يمكن أن يتكفّل المصرف بوضع خطة تؤمّن تداول الدولار في السوق من خلال منصّة شفافة، ليكون بإمكان الدولة أن تشتري وتبيع العملة الصعبة للمصرف المركزي، وفق سقوف تُحدد بالتفاهم بين الحكومة والمجلس المركزي لمصرف لبنان. ومن خلال هذه المنصّة، يمكن للمصرف أن يوحّد ويعوّم سعر الصرف بعد استيعاب حركة القطع في السوق الحر، وأن يتدخّل بشكل مضبوط وبقدر الحاجة، وأن ينفّذ عمليّات القطع لحساب الدولة –بالاتجاهين- بشكل مدروس.
مع الإشارة إلى أنّ وزير الأشغال العامّة استعرض يوم أمس مداخيل مرفأ بيروت بالعملات الأجنبيّة، والتي تقارب حدود 10 مليون دولار أميركي “فريش” شهريًا، من دون احتساب مداخيل المرافق الأخرى مثل مرفأ طرابلس والمطار وغيرهما. وهذا ما يؤكّد أن الدولة قادرة على تأمين الحد الأدنى من الدولارات التي يمكن بيعها لمصرف لبنان، إذا ما وجدت آليّة شفافة لذلك، فيما يمكن للمصرف أن يتفاوض على حجم الدولارات التي سيبيعها في المقابل للدولة –بسعر السوق- من خلال آليّة التداول بالعملة الصعبة، لتمويل النفقات التي لا يمكن سدادها إلا بالدولار الأميركي. وإذا كان هناك فارق ما بين حجم الدولارات التي تشتريها وتبيعها الدولة، عندها يمكن شراء هذه الدولارات من السوق، على أساس السقوف المتفق عليها مع الحكومة.
مخاوف من التداعيات على الذهب والاحتياطات
في الوقت نفسه، ثمّة الكثير من المخاوف التي بدأ البعض بالإشارة إليها، بخصوص تداعيات عقد القرض المقترح على مفاوضات لبنان مع صندوق النقد الدولي والدائنين الأجانب. فبالنسبة إلى الصندوق، سيمثّل هذا الإجراء توجهًا نحو تعظيم حجم الدين كنسبة من الناتج المحلّي، في حين أن المطلوب من لبنان حاليًا هو العكس تمامًا: التفاوض مع الدائنين لإعادة هيكلة الدين وتخفيض حجمه إلى مستويات مستدامة. وحتّى هذه اللحظة، لم يعبّر صندوق النقد صراحة عن رأيه بفكرة نوّاب الحاكم، إلا أن جميع المؤشّرات تدل على أنّ بعثة الصندوق ستتلقّى هذه الخطوة بسلبيّة شديدة.
أما بالنسبة للدائنين الأجانب، الصامتين حتّى اللحظة، فستعطيهم هذه الخطوة ورقة إضافيّة في المحاكم الأجنبيّة. فمن حيث المبدأ، يفترض أن يحاول المصرف المركزي حماية احتياطاته المودعة في المصارف الأميركيّة، واحتياطات الذهب المودعة في الولايات المتحدة أيضًا، من ملاحقات الدائنين الأجانب في محاكم نيويورك، وذلك على قاعدة استقلاليّة المصرف المركزي الماليّة.
لكن الخطوة التي يطلبها نوّاب الحاكم ستقلّص إلى حد كبير من استقلاليّة المصرف المعنويّة والماليّة، وهو ما سيعطي الدائنين نقطة قوّة قانونيّة يمكن استخدامها ضد لبنان في المحاكم الأميركيّة، لوضع اليد على موجودات مصرف لبنان. مع الإشارة إلى أنّ المحاكم الأميركيّة تعطي موجودات المصارف المركزيّة حصانة اتجاه مطالبات دائني الدول، لكن بقدر اتساق طبيعة هذه الموجودات مع الدور الطبيعي الذي يجب أن يؤدّيه أي مصرف مركزي، وبقدر الاستقلاليّة التي تحكم عمل المصرف المركزي.
في خلاصة الأمر، تطول لائحة الهواجس والمخاوف المرتبطة بمطالبات نوّاب الحاكم الأخيرة، وتحديدًا بما يخص فكرة عقد القرض بالعملات الأجنبيّة. أمّا الخشية الأهم، فهي من مآل الأمور ابتداءً من مطلع الأسبوع المقبل، إذا ما نفّذ نوّاب الحاكم تهديداتهم بوقف تمويل الدولة بالعملة الصعبة، بعدما أوقفوا عمل منصّة صيرفة التي كانت تتكفّل بشراء جزء من هذه الدولارات من السوق. عندها، قد يكون لبنان على موعد مع ارتطامات ماليّة ومعيشيّة كبيرة، خصوصًا إذا ما أدّت هذه الخطوة إلى انقطاع ما تبقى من أدوية كانت تؤمّنها سابقًا وزارة الصحّة بالسعر المدعوم.