من هشاشة الاقتصاد اللبناني، أنه يعتمد على الاستهلاك المستورد المموّل من الخارج. حصّة الإنتاج المحلي فيه، متدنية جداً إلى حدّ أنها لا تُذكر. وهذا ينطبق على مرحلتي ما قبل الأزمة النقدية والمصرفية، وما بعدها. غير أن هذه الهشاشة التي تظهر في بنية الاقتصاد، تتمظهر بشكل مخادع في لحظة الأزمة، إذ تتحوّل من هشاشة تدميرية إلى قوّة لحظوية تموّل استهلاك الضرورة المموّل بالتحويلات الخارجية. لذا، يمكن القول إن الاستهلاك الذي يمثّل حصّة وازنة من الناتج المحلي الإجمالي، لم يتأثّر بنقص في التمويل وإنما بفعل التغيّرات في سلوك المستهلك. بمعنى أوضح، حصّة الاقتصاد الحقيقي ضئيلة جداً وتأثّرها بتداعيات الحرب لن يغيّر في نمط الاقتصاد القائم على الاستهلاك المستورد طالما أن سلاسل التوريد بخير.
تتغذّى حركة الاستهلاك في لبنان، بشكل أساسي، على التحويلات المالية من الخارج، ولا سيما تحويلات المغتربين التي تصل إلى 7 مليارات دولار، أو ما يوازي 40% من الناتج المحلّي. وإذا أضفنا إليها التحويلات الأخرى الآتية على شكل مساعدات من منظمات أممية ودول مانحة وسواها، فإنه يُقدّر أن تتجاوز 60% من الناتج المحلي. أما بشكل عام، فإن حجم الاستهلاك نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي يزيد عن 100%. وكما يُعرف عن التحويلات، فإنها لا تنخفض أيام الحرب والأزمات، بالعكس هي تزيد.
وفي هذا الإطار يشهد الاقتصاد نشاطاً استهلاكياً غير قليل مع تغيّر في بنية الطلب، أي إن الطلب انتقل من الأطراف في البقاع والجنوب والضاحية إلى مدينة بيروت وقسم كبير من جبل لبنان في إقليم الخروب وكسروان والمتن، وصولاً إلى شمال لبنان. في مدينة بيروت، تُسجّل حركة شبه طبيعية للمستهلكين الذين يتوافدون إلى المحالّ التجارية. يركّز الزبائن على شراء الأساسيات مثل المواد الغذائية. وهذه الحركة منزوعة من التهاتف على التموين الذي يحصل في الأزمات. يمكن تفسير الأمر بأن سلاسل التوريد ما زالت بعافيتها، سواء على مستوى حركة الاستيراد أو النقل الداخلي.
هذا الوضع بشكل عام، ينطوي على تباينات داخل حلقات الاستهلاك الأصغر. وهذا يعود إلى أن النزوح أدّى إلى كثافة سكانية عالية جداً في بعض المناطق حيث ارتفعت معدلات الاستهلاك. قد يؤدي ذلك إلى ضغط على سلع معينة، وبالتالي قد تنشأ مشاكل نسبية في الوفرة. فمن يعيش في بيروت، على سبيل المثال، في الأيام العادية، قد يستغرب في هذه الأيام أنه إذا نزل إلى الاستهلاكيات الموجودة في الأحياء لا يجد الخبز في ساعات الليل، وفي بعض الأحيان في ساعات بعد الظهر المتأخرة. بهذا المعنى يمكن الحديث عن «عدم وفرة» السلع الاستهلاكية.
التغيّر في بنية الطلب ناتج من سلوك الأسر. ففي أيام الأزمات، عندما يكون هناك عدم يقين ترتقب الأسر ما سيحدث ومدته، وفي بالها أن النقد الموجود بين أيديها قد يكون مفيداً أكثر في الأيام التالية. هكذا، يصبح الإنفاق حذراً أكثر ما يفسّر التركيز على الأساسيات والضروريات. فالمستهلك النازح يدرس أوضاعه المالية انطلاقاً من الحاجات المرتقبة في المستقبل القريب والمتوسط، أي إن ترتيب الأولويات لديه يبدأ بتأمين إيجار السكن وقدرته على الاستمرار في تسديده. والإيجارات للنازحين انتفخت بسبب الاستغلال. فالأولوية ضمن ترتيب المستهلك النازح، هي في المقابل عامل استغلال لدى مالكي الأصول. كل سيناريو ضمن الأولويات يفرض نمطاً في الإنفاق يتماشى مع الضروريات والأساسيات. وهذا بحدّ ذاته منطق انعدام اليقين. إلا أنه مقابل ذلك، نشطت حركة الاستهلاك في بعض القطاعات، استثنائياً. فعلى سبيل المثال، أصبح هناك إقبال على الكهربائيات، لأن الأسر النازحة اضطرت في الكثير من الأحيان إلى تجهيز منازل غير مفروشة.
لا بدّ أن حالة انعدام اليقين ستنعكس على النشاط الاقتصادي، إلا أن النتيجة ليست واضحة بعد، ولا سيما أن الخسائر التي يشار إليها هي خسائر في الأصول وفي قدرة الناتج على النمو، علماً أن النمو لم يكن في أفضل حالاته قبل الحرب. فالبنك الدولي كان يتوقّع نموّاً صفرياً في السنة الجارية، وبالتالي قد يحصل انكماش مرتبط بالنشاط المتولّد في الداخل، إنما تقديره الآن هو أمر صعب جداً. فالموارد التي تغذّي الحركة الاستهلاكية (وهي مصادر الأموال الصعبة التي تدخل البلد)، لن تتأثّر بفعل الحرب. لذلك يبقى المتغيّر الوحيد متعلقاً بالسلوك الاستهلاكي ربطاً بالمدى الزمني لحالة انعدام اليقين، سواء بانتهاء الحرب، أو بالتأقلم مع نوع من الاستقرار النسبي مع شكل الحرب القائمة، بمعنى عدم توسّعها أو انتقالها إلى مراحل أخرى أكثر تطرفاً وصعوبةً من ناحية الوضع المعيشي.