يُعتبر العجز في ميزان المدفوعات سبباً رئيسياً لما نشهده من تقلبات في سعر الصرف. وبغض النظر عن بقية الاسباب الجوهرية الأخرى، فإن ارتفاع معدل خروج العملة الصعبة بالمقارنة مع دخولها، سيقوّض كل الجهود الرامية للخروج من الازمة. فسعر صرف الليرة الذي افتتح البارحة على 6200 مقابل الدولار، سيستمر بالانخفاض تدريجياً من دون حدود. ولن يُوقف هذا الانهيار إلا عكس دواسر “باخرة” الاقتصاد، نحو زيادة الصادرات، وجذب الاستثمارات والتحاويل الخارجية.
في الآونة الاخيرة برز ميل واضح عند مختلف الجهات لتشجيع الصناعة الوطنية ودعمها، بعد تنكر لأهميتها دام لعقدين من الزمن وأكثر. فالصناعة والقطاعات الانتاجية لا تشكل بديلاً عن الاستيراد فحسب، بل بوابة أساسية للحصول على العملات الأجنبية. وبقدر ما نوسّع فتحة الباب بقدر ما نستفيد من تدفق الدولار وتحقيق نوع من التوازن في ميزان المدفوعات. هذه الفرصة التي قد تأتي مرة واحدة وتعوض التراجع الحاد في تحويلات المغتربين والعوائد السياحية والاستثمارات المباشرة وغير المباشرة، اصطدمت بمخلّفات السياسة الاقتصادية المتبعة وانهيار القطاع المصرفي. المشهد بعد ثورة 17 تشرين فتح على قوة انتاجية صناعية وزراعية كامنة، كان من الممكن ان تشكل مدماكاً صلباً في إعادة النهوض. إلا ان إهمالها على مدار السنوات على حساب تمويل قطاع عام مهترئ، وخروج المصارف عن مسار التمويل الاساسي ووقوعها في أزمة سيولة هائلة، فوّت الفرصة مرتين. مرة بمدها بالاستثمارات وتوفير متطلباتها، ومرة بفقدان ثقة الصناعيين بالمصارف وتحويل معاملاتهم إلى المصارف الخارجية. وبدلاً من أن تكون الازمة منطلقاً لتحقيق التوازن تحولت إلى سبب لمفاقمة المشاكل؟
عائدات الصادرات… في الخارج
ما يحصل من وجهة نظر العديد من المصدّرين لا يبشر بأن الازمة ستنعكس تحسناً كبيراً في ميزان المدفوعات. قد يزيد الانتاج الصناعي وترتفع قيمة الصادرات وتزيد مساهمتها من الناتج الوطني، لكن الايجابيات لن تنعكس زيادة بالتدفقات النقدية الواردة. والسبب هو “طلب المصدرين من عملائهم تحويل المبالغ المالية إلى حسابات مصرفية خارجية في قبرص أو دبي أو غيرها من الدول الأجنبية. سيستخدم جزء منها لاعادة شراء المواد الاولية”، كما يقول نائب رئيس جمعية تجار بيروت باسم البواب، ويكمل: “فضعف الثقة بالنظام المصرفي، والخوف من احتجاز الاموال الواردة ومنع التجار والمصدرين من التصرف بها في ما بعد، وتراجع الخدمات التي تقدمها البنوك بالتزامن مع اضطراب علاقتها مع مثيلاتها في العالم دفعت بالمصدرين إلى وقف التحويلات إلى لبنان”.
قبل مدة ليست بطويلة اتخذت بعض المصارف الأجنبية منها “HandelsBanken” السويدي، قراراً بوقف التعامل مع لبنان، لجهة تحويل الأموال منه وإليه. والكثير من المصارف المحلية تعاني من نقص كبير في المبالغ المودعة لدى المصارف المراسلة في الخارج من اجل تسديد التزاماتها. الامر الذي دفع إلى عرقلة عمليات فتح الاعتمادات والتضييق على كل معاملات التصدير والاستيراد على حد سواء، وشجع التجار والمصدرين على التعامل من “برا لبرا” عبر المصارف الاجنبية، من دون الحاجة إلى المرور في شبكة البنوك المحلية.
تراجع حجم ميزان المدفوعات
هذا الواقع قد ينطبق من وجهة نظر الصناعي بول أبي نصر على الاقتصاد الجزئي، “إذ ان هناك بعض الشركات تصدّر اكثر مما تستورد من المواد الاولية لصناعتها”. إلا ان تأثيره على الاقتصاد الكلي يعتبر، برأي أبي نصر، “محدوداً، لأن قيمة الصادرات الصناعية تعادل قيمة الواردات من المواد الاولية بشكل عام. وعليه فان الصناعي المصدّر سيمول عمليات استيراده للمواد الاولية من هذه الحسابات في المصارف الأجنبية. ولن تظهر بالتالي في ميزان مدفوعاتنا كتدفقات نقدية خارجة. بمعنى ان النقص في التدفقات المالية الواردة يقابله اختزال قيمة التدفقات النقدية الخارجة”.
إصلاح القطاع المصرفي ضرورة
ما يجري يعني ان الاختلال الكبير في ميزان المدفوعات سيبقى كما هو. والذي سيتراجع هو الحجم الكلي لهذا “الميزان”. فالأموال التي تدخل إلى لبنان ستبقى تتراجع بشكل تناسبي مع الاموال التي تخرج منه. أما تحقيق نوع من التوازن فلن يكون إلا عبر إعادة تحفيز التحويلات المالية المباشرة من المغتربين، والقيام بخطوات جدية من قبل المصارف تجاه مختلف القطاعات بشكل عام والانتاجية بشكل خاص. عدم انكار الازمة الواقعة لا يعني التنكر للطريقة الخاطئة التي جرى التعامل معها من قبل المصارف، وبحسب أبي نصر، فإن سلوك المصارف “لم يكن مشجعاً، وأدى الى أزمة ثقة كبيرة بينها وبين القطاع الخاص. “فالنقزة” التي سببتها البنوك أجفلت القطاع الخاص وغذت شعور الخوف من التعامل معها ودفعت المصدّرين إلى الابتعاد عنها”.
إذا كانت المصارف حجر زاوية الاقتصاد وممراً الزامياً لأي عملية نمو وازدهار، فإنه لا مفر بعد اليوم من اعادة بناء هذا القطاع على أسس سليمة ترمم الثقة وتؤسس على نهج جديد يخدم الاقتصاد والمواطن.