تتزايد شكاوى المواطنين الناجمة عن “التلاعب” بكلّ ما يطال حياتهم ومتطلّباتهم الأساسية، ويتفاقم معها “ضعف” إدارة حماية المستهلك، ومعه غياب وزارة الاقتصاد والتجارة الكلّي، وهي المعني المباشر بالدفاع عن مصالحهم. يبدأ نهج “التقصير” بغضّ النظر عن التلاعب بأسعار وكمّيّات المنتجات الغذائية ولا ينتهي حتى عند تفجّر ملفّ بحجم قطاع التأمين ومتفرّعاته… نعم، إنّ الوزارة المعنيّة تعمل “على قد الحال”، كما يقول الوزير، ولكنّ هذه الحال لم تعد تحتمل من زمان…إنها الثورة يا عزيزي.
في مقابل حركة شكليّة استعراضيّة، تمثّلت بقرار وزاري باهت وضعيف متعلق بضرورة إصدار الفواتير بالليرة اللبنانية، لم تقتصر العبرة على التطبيق بل انحصرت بـ “التنظير” وإصدار قرارات لا تُصرف عمليّاً على أرض الواقع. فضلاً عن غياب الخطوات التطبيقية المتابِعة من قبل “حماية المستهلك”، التي فشلت بضبط الأسعار أو على الأقل رصدها.
وقد انتقلت عدوى هذا الوباء إلى بوالص التأمين بعدما عمد “بعض” الشركات إلى رفع قيمة القسط بالليرة اللبنانية، ما يعني أن السّعر الفعلي الذي يسدده المواطن قد ارتفع بنسب بدأت تتجاوز حدود الـ 30%، وفقاً لسعر صرف الدولار الأميركي. وقد أدّى هذا الأمر إلى تأخر المواطنين عن تسديد الأقساط المتوجبة على بوالصهم، مما قد يؤدي عملياً إلى إلغاء عدد كبير من التأمينات، مع ما يستتبع ذلك من آثار سلبية على المواطنين بسبب فقدانهم التأمين على الرغم من تسديدهم أعداداً كبيرة من الدفعات على مدى سنوات طويلة.
التأمين في مهبّ الدولار
بالنسبة إلى التأمينات العامة، إرتفعت الأسعار للعقود الجديدة والمجددة باعتبارها عقوداً سنوية. ويبدو أن غلاء الأقساط أتى مزدوجاً إذ ارتفعت الأسعار أولاً بالدولار الأميركي، ثم ارتفعت عملياً وفق سعر صرف الدولار بالليرة اللبنانية، هذا إذا قبلت شركة التأمين سداد الأقساط بالليرة، مع الإشارة إلى أن عدداً من الشركات يرفض استلام الأقساط بالعملة المحلّيّة. أما بالنسبة إلى التأمينات على الحياة، فإن الأسعار بقيت ثابتة بالدولار، مع ارتفاع فعلي بسبب سعر الصرف فيما لو قبلت شركة التأمين استلام الأقساط بالليرة. في هذا الاطار يشير عدد من المراقبين إلى أنّ “الارتفاع يطال بشكل أساسي التأمينات الطبية، وهي الأهم لأنها تغطي المواطنين صحّيّاً”. وتؤكد المعلومات التي حصلت عليها “نداء الوطن” أنّ هناك بوادر تشير إلى محاولات من قبل بعض الشركات لتسديد التعويضات بالليرة وفق سعر الصرف الرسمي أي 1500 ل.ل. ما يؤدي في الواقع إلى انخفاض كبير في قيمة التأمين لا سيما وأنّ الاقساط المسددة قبل الأزمة تمّت بالدولار. في خضمّ كلّ ذلك، لا تهتمّ الوزارة المعنية بهذه الازمة الاجتماعية التأمينية الموازية في حجمها ومفعولها للأزمة المصرفية. وفي ظل تعطيل الوزارة المعنية لعمل لجنة مراقبة شركات التأمين والتي شهدت إضراباً للعاملين فيها امتد لأكثر من 3 أشهر يبدو أن شركات التأمين تعمل اليوم بلا حسيب، وهو ما انعكس ازدياداً في عدد الشكاوى من قِبل المواطنين بسبب ممارسات هذه الشركات وامتناعها عن الدفع أحياناً والإيفاء ببنود العقود مع المؤمَّنين.
سقف… “الإلزامي”
بحسب مصادر “المؤسسة الوطنية للضمان الإلزامي” فإنّ إحدى شركات التأمين، رفعت دعوى قضائية ضدها لدى قاضي الأمور المستعجلة بحجة عدم تزويدها ببوالص تأمين إلزامي للسيارات. وقد استندت دعوى الشركة إلى حرية الاقتصاد وعدم جواز تقييد النشاطات الاقتصادية تحت أي ظرف، متجاهلة أن التأمين هو من القطاعات التي تخضع للرقابة. والمضحك المبكي في هذه الخطوة أن هذه الشركة تحديداً تستحوذ على “حصة الأسد” من سوق التأمين الإلزامي، وهي من أولى الشركات التي فرضت على زبائنها توقيع تعهدات يتحملون بموجبها كامل تبعات التدهور في سعر صرف الليرة على بوالصهم.
وتجدر الاشارة إلى أنّ “المؤسسة الوطنية للضمان الإلزامي” التزمت بقرار وزير الاقتصاد السابق والذي يقضي ما لا يتجاوز 20.000 بوليصة للتأمين الإلزامي لكل شركة شهرياً. وكانت هذه الشركة قد تخطت هذا السقف وبات من الضروري إعادة تصويب الوضع، وهذا ما قامت به المؤسسة من خلال عدم تزويد الشركة بالبوالص الجديدة. لا تلتزم كلّ شركات قطاع التأمين بتطبيق القوانين ولكنها كلها مرخصة. وقد رفعت اللجنة توصياتها الى الوزارة. ولكن قلة هي القرارات التي اتخذت عملياً باستثناء شركة “ليبرتي” التي تم إيقافها، مع الإشارة إلى أن القرار أتى متأخراً جداً، وانتظر حتى باتت الشركة غير قادرة على تسديد أي من مستحقاتها بما فيها رواتب موظفيها.
رقابة… بلا مراقبين
أضرب العاملون في لجنة مراقبة شركات التأمين لأكثر من ثلاثة أشهر لأنه لم يتم تسديد مستحقاتهم لأسباب غير مفهومة. وحتى اليوم، لم يتم إبلاغهم رسمياً من قبل وزارة المال، ومن غير المستبعد أن يكون التدخل المفاجئ والمباشر لوزارة المالية في عملية تمويل جهاز رقابي وتقاعس المسؤولين فيها عن متابعة هذا الموضوع، انعكاساً لنية مبيَّتة تهدف إلى تعطيل دور هذا الجهاز الرقابي بحسب بعض المراقبين، لا سيما في ظل عدد من التدابير التي كانت اللجنة قد أعلنت عن التحضير لها، والتي تساهم في ضبط مكامن الفلتان والتسلط على أموال المواطنين، وتهدد بالتالي المصالح الضيقة لعدد قليل من شركات ووسطاء التأمين. وهكذا يتم تغليب مصلحة البعض على المصلحة العامة بعكس المفاهيم الإنسانية – الاجتماعية والقانونية. وتكمن الخطورة الاكبر في تشكيل هذه الخطوة سابقة ومدخلاً لتعطيل كافة الأجهزة الرقابية على القطاعات المالية من خلال تعطيل مواردها المالية والسيطرة عليها وإخضاعها للموازنات العامة التي تخضع بدورها للتجاذبات السياسية التي لا تنتهي. في حين أن القوانين وقرارات مجلس الوزراء أعطت كافة الهيئات الرقابية منذ نشأتها حصانات مالية وإدارية لتمكينها من القيام بدورها بشكل مناسب ومحايد، مع الحفاظ على استقلالية إدارية ومالية كافية.
إلا أن وزير الاقتصاد والتجارة الحالي عمد إلى عرقلة قرارات اللجنة وإغفال توصياتها، من حيث يدري أو لا يدري، لا بل أصدر توجيهات ناقضت توجهات وتوصيات اللجنة، وغلَّبت مصلحة عدد محدود من الشركات على المصلحة العامة للمواطنين والقطاع والاقتصاد وكلفت الخزينة أموالاً، بحسب بعض المراقبين. ويمكن القول إن الوزارة، في مكان ما، خالفت القوانين والأنظمة المرعيّة الإجراء، وباتت عرضة للمساءلة… ربّما!