لم تنجح زيارة مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط ديفيد ساترفيلد لبيروت في خطف الأضواء الإعلامية، لأنّ ما حمله جاء في اطار العناوين العريضة ودعوات التمني، ربما لأنّ أساس مهمته التحضير لزيارة وزير الخارجية مايك بومبيو الأولى للبنان.
لذلك بقي ملف الفساد في واجهة الاحداث اللبنانية ولو انّ المواقف الكثيرة التي تطلق حوله ما تزال بلا بركة او نتيجة، وربما ستبقى فارغة من ايّ مضمون.
خلال العام الغائب، وفي عزّ الاشتباك الذي كان دائراً حول شفافية حلول بواخر الكهرباء، قال قاضٍ كبير مهتم بهذا الملف لأحد الزملاء في معرض جوابه على سؤال حول الإجراءات الممكن اتّخاذُها: «هل أنت تصدق فعلاً انّ القضاء قادر على محاسبة أو توقيف وزير أو مسؤول فاعل؟».
ربما هو الجواب الذي يختصر عمق أزمة الفساد التي تنهش ركائز الدولة اللبنانية.
في الواقع فإنّ الفساد في لبنان ينقسم الى ثلاثة اشكال:
ـ الشكل الاول، وهو الذي نراه يومياً كمواطنين خلال احتكاكنا بالإدارات الرسمية وانجاز المعاملات. وهو الذي يتلخص بالرشاوى التي اعتدنا على دفعها لإنجاز معاملاتنا أو للتحايل على الضرائب، أو لإمرار مخالفات.
وهذا الشكل من الفساد يراه ويلمسه اللبنانيون عند كل لحظة، وعندما تحدث هؤلاء عن الفساد فهم يعنون بذلك هذه الفئة من الفاسدين، ولكن الحقيقة فإنّ هؤلاء الفاسدين هم السمك الصغير في بحر الفساد.
ـ الشكل الثاني، فهو يطاول التلزيمات التي تنفّذ مشاريع لها علاقة بالبنية التحتية أو بمشاريع للدولة، حيث يجري «بيع» المشروع من شركة لأخرى مع دفع العمولات لهذه الشركات وللمسؤولين الذين أعطوا.
وفي النهاية ينفّذ المشروع بأسوأ شروط ممكنة وبكلفة متدنّية، وهو ما يفسر الاوضاع المزرية للبنية التحتية للدولة اللبنانية، اضف الى ذلك إدخال سلع مغشوشة ومزوّرة الى الاسواق اللبنانية من خلال رشوة موظفين، كباراً وصغاراً على حدٍّ سواء ما يضع صحة الانسان وسلامته في دائرة الخطر.
وعلى سبيل المثال ما حصل عندما فاضت المياه المبتذلة ومياه الصرف الصحي بداية فصل الشتاء في منطقة الرملة البيضاء.
وأفردت وسائل الاعلام مساحات واسعة في حديثها عن هذه الفضيحة وتمّ تشكيل لجان نيابية للتحقيق وكذلك تمّ الالتزام بصدور نتائج حاسمة ومتهمين. ولكن، وكالعادة دوماً، فإنّ الرهان يكون على عامل الوقت سبيلاً لجعل الناس ينسون ما حصل قبل أن يدخل البلد في فضيحة جديدة وهكذا دواليك.
في الحقيقة، وعلى هذا المستوى، يدخل موظفون كبار الى جانب نواب في بعض الأحيان في مهمة إمرار الصفقات أو في السعي الى لفلفتها.
وعلى رغم خطورة ما يحدث على هذا المستوى والذي يغيب في أجزاء اساسية منه عن عيون الناس، إلّا أنه يُعتبر من فئة السمكة الوسطى وهو لا يشكل أساس المعالجة الجدّية والحاسمة للفساد.
– الشكل الثالث، وهو الأهم والأخطر، وهنا يكمن رأس الأفعى. ففي هذه الخانة يجول زعماء كبار ويصولون بحيث يتمّ توزيع القطاعات وفق منطق الحصص فتكون التلزيمات الكبيرة والضخمة لهذه القطاعات خاضعة لهوامش هائلة من العمولات والأرباح الخيالية تماماً كما يحصل في جمهوريات الموز. ولبنان في هذا المجال لا يختلف عنها أبداً.
في هذه الخانة يتمّ تبادل ملفات الصفقات وتكون السياسة غالب الامر صدى للملفات، أي انه في حال الخلاف على الحصص والتقاسم يندلع نزاع سياسي بعناوين طائفية في معظم الأحيان، حيث تسود لغة حماية المصالح السياسية لهذه الطائفة او تلك.
والهدف هنا طبعاً هو سعي كل فريق لليْ ذراع الفريق الآخر قبل العودة الى تفاهمات الغرف المغلقة وإعادة ترتيب بروتوكول تحاصصي جديد حول القطاعات والمشاريع الكبرى. وهنا تسبح الحيتان الكبيرة. وتحت هذا السقف تسبح السمكات الوسطى والصغرى.
فعلى سبيل المثال يقول أحد الخبراء الاقتصاديين إنّ مجموع ما دخل الى الخزينة اللبنانية من أموال منذ العام 1992 وحتى اليوم يبلغ نحو 350 مليار دولار. فكيف يمكن تفسير هذا الوضع المزري للكهرباء وشبكات المياه والبنى التحتية في مقابل هذا المبلغ الهائل من المال، في وقت يئنّ المواطن من الفقر والعوز وعدم وجود فرص عمل.
والواضح انّ اتّهام اركان الدولة اللبنانية بالفساد الكبير تحت ستار العناوين السياسية والطائفية من العواصم الغربية نفسها وفي طليعتها باريس، التي قدّمت للبنان مؤتمرات باريس 1 و2 و3 وانطلاقاً من تجاربها السابقة وضعت قواعد رقابة صارمة لمؤتمر «سيدر» والذي حرصت على القول إنه مختلف كلياً عن مؤتمرات باريس السابقة.
وفي ذلك اتهام ضمني مبطّن حول فساد المسؤولين اللبنانيين الكبار، وربما فساد هذا النظام اللبناني الذي يسمح للفاسدين بالتمترس وراء شعارات سياسية وطائفية مخادعة.
كذلك فإنّ نواباً كثراً قدموا الى المجلس النيابي من خلال «شراء» مقاعدهم وهو ما يضع علامات استفهام حول فاعلية هؤلاء النواب في مواكبة معركة ضرب الفساد.
حتى الآن نسمع جعجعة ولا نرى طحيناً، وقد لا نرى.