ملف الفيول صار متشعباً. القضاء وضع يده على القضية، لكن الخشية تبقى من التسييس، الأداة السحرية لمنع المحاسبة. لكن بعيداً عن المسار القضائي، لا تزال معامل الكهرباء تعاني من تبعات عدم التقيد بالمواصفات المطلوبة للفيول. لا قدرات تخزينية لكهرباء لبنان حالياً ولا إمكانية لتشغيل المعامل بكامل طاقتها، ولولا أن استهلاك الطاقة ينخفض في هذه الفترة من السنة، لكانت التغذية انخفضت بشكل ملحوظ. كل ذلك يشير إلى أن عقد سوناطراك وصل إلى نهايته بعد 15 عاماً، كان يجدّد خلالها كل ثلاث سنوات.
قضية الفيول المغشوش صارت قضية القضايا. هي عيّنة من الفساد المستشري في البلد، والأهم أنها ستكون عيّنة لكيفية مواجهة هذا الفساد في جمهورية ما بعد الانهيار. التسييس يطلّ على الملف من كل صوب. ذلك كفيل بإنقاذ المتورطين. هنالك دائماً فيتو يقضي على المحاسبة: سياسي حيناً وطائفي أحياناً، هذا إذا ضبطت الحدود بين الأمرين. لكن مع ذلك، ثمة أمل بأن يصل هذا الملف إلى خواتيمه، بأن يسمح السياسيون للقضاء، ولو لمرة واحدة، بأن يقوم بعمله، وخاصة أن ما تظهره التحقيقات حتى اليوم يؤكد أن هنالك شبكة عنكبوتية من الرشى التي يصعب حصرها، أو تحديد مسارها الزمني. مطّلعون على الملف يقولون إنه، لشدة تعقيده، قد يصح معه قلب القاعدة القانونية. هنا الكل متهم حتى تثبت براءته.
القصة طويلة وهي حكماً لم تبدأ مع وصول الباخرة MT Baltic إلى لبنان في آذار الماضي. لكن مع ذلك، فإن ما فتح الباب أمام القضاء للدخول إلى الملف هو تلك الباخرة التي تبيّن أنها محمّلة بـ«نفايات نفطيّة»، بالرغم من حصولها على صك براءة من منشآت النفط والمديرية العامة للنفط في وزارة الطاقة يؤكد أنها مطابقة للمواصفات.
مسألة المواصفات المطلوبة للفيول ليست يوماً ثابتة. على سبيل المثال، قبل عام 2013، لم تكن وزارة الطاقة تشترط أن تكون مواصفات الفيول مطابقة لـ«ايزو» 8217. لكن الأمر تغيّر يوم التعاقد مع شركة «كاردينيز». حينها تبين أن الفيول المعتمد لا يصلح للمحركات العكسية، وقد يسبب لها ضرراً بالغاً، والأمر نفسه يشمل معملي الزوق والجية الجديدين، اللذين يعملان على المحركات نفسها. صار الفيول يصل إلى لبنان وفق نوعين من المواصفات. الأول مطابق لمواصفات «ايزو» والثاني أقل جودة يستخدم لتشغيل المعملين الحراريين القديمين في الزوق والجية.
بالنسبة إلى الفيول الذي يُستقدم لتشغيل الباخرتين ومعملَي الزوق والجية الجديدين، لم يعد الاكتفاء بالفحوصات التي تجرى في مختبرات منشآت النفط، بإشراف إحدى شركات المراقبة المكلفة من قبل المديرية العامة للنفط، كافياً. الآلية صارت كالآتي: تصل الباخرة المحمّلة بالفيول إلى الساحل اللبناني، فتأخذ مديرية النفط عيّنة منها لفحصها. إذا تأكد مطابقتها للمواصفات تفرّغ الحمولة في خزانات كهرباء لبنان. في هذه المرحلة تحديداً، وأثناء عملية التفريغ، تبدأ كل من كارادينيز وMEP بالحصول على العيّنة الخاصة بها، عن طريق التنقيط طوال فترة التفريغ. بعدها ترسل كل شركة عيّنتها إلى شركة الفحص في دبي (Bureau Veritas)، ولا تستعمل الفيول إلا بعد التأكد من مطابقته للمواصفات المطلوبة. درجت العادة هنا أن يستعمل الفيول حتى إذا كانت مواصفاته غير مطابقة تماماً.
لكن الأمر يتطلب حينها إجراءات أصعب من قبل الشركتين المعنيتين، تتعلق بمعالجة الفيول قدر الإمكان من خلال فلاتر خاصة. في هذه الحالة، يُعرف في القطاع أن البواخر تتفوق على المعامل الأرضية في قدرتها على معالجة الفيول (نظراً إلى طبيعة عملها وإمكانية انتقالها من بلد إلى آخر ومن استعمال نوع فيول إلى آخر). على سبيل المثال، اعترضت MEP على إحدى الشحنات التي وصلت إلى لبنان في تموز، رافضة استعمالها نظراً إلى زيادة نسبة الحموضة فيها، إلا أن كارادينيز استعملتها، بعدما تمكّنت من معالجتها، لكنها مع ذلك اضطرت إلى تخفيض طاقتها الإنتاجية. للمناسبة، تلك الشحنة لا تزال محل خلاف بين كهرباء لبنان والشركة المشغلة. كهرباء لبنان تؤكد أن الشحنة كانت مطابقة للمواصفات المنصوص عليها في العقد، والشركة تعتبر أنها غير قابلة للاستعمال.
بحسب مدير شركة MEP يحيى مولود، فإن أربع شحنات رفضت حتى اليوم. أولاها في الشهر الأول من عام 2019، ولم تكن مطابقة لكل المواصفات المطلوبة، وثانيتها في شهر تموز، واحتوت على مواد كيميائية محظورة وغير مستقرة تسمح بتغيير خصائص الفيول، وثالثتها شحنة آذار الماضي التي كانت قد وصلت نسبة الترسبات النفطية فيها إلى 4.26، فيما يفترض ألا تزيد على 0.1 (أكدت الفحوصات التي أجرتها منشآت النفط مطابقتها للمواصفات قبل أن يتبيّن أنها غير مطابقة). أما آخر الشحنات المرفوضة فتلك التي كانت مُخصصة للمعامل الحرارية (القديمة)، وأعلنت وزارة الطاقة رفضها بسبب الاختلاف في نسبة الكثافة.
أربع شحنات مخالفة للمواصفات وصلت إلى لبنان منذ بداية 2019
اللافت أنه بالرغم من إعلان سوناطراك موافقتها على استعادة الشحنة المغشوشة (آذار)، فإن هذه الشحنة لا تزال حتى اليوم في الخزانين الرئيسيين (25 ألف طن سعة كل خزان) في مؤسسة كهرباء لبنان، ما يسبب نقصاً في القدرات التخزينية للمؤسسة. وهي لذلك لم تتمكن من تفريغ الشحنة التي تلت، والتي تبين أنها مطابقة للمواصفات، فاضطرت إلى استعمال خزانات احتياطية تستعملها شركة MEP، وهي لا تزال تستعين بهذه الخزانات. هذا يؤدي إلى تفريغ الشحنات على مراحل وبتأخير نحو خمسة أيام. تملأ الخزانين الاحتياطيين (22 ألف طن الزوق و11 ألفاً في الجية) ثم تنتظر ريثما يستهلك جزء من المخزون لتعيد ملء الخزانين. الأمر لم يقف عند هذا الحد. بعدما تبين أن الشحنة المخصصة للمعملين القديمين غير مطابقة أيضاً، انخفضت القدرة على تأمين كامل حاجة المعملين من الفيول، فتوقف العمل في مجموعتي إنتاج من أصل ثلاث في الزوق، وفي مجموعتين من خمس مجموعات في الجية. ولذلك، اضطرت كهرباء لبنان إلى تشغيل المعامل الاحتياطية في صور وبعلبك.
كل ذلك يشير إلى خلل جوهري إن لم يكن في العقد مع سوناطراك ففي تنفيذه. والخلل هنا لا يتعلق بالمخالفات القانونية التي فتح التحقيق بها فحسب، بل بالأضرار التقنية أيضاً. وهذا الأمر يستدعي بحثاً طارئاً في حلول جذرية، إما تخلص إلى تغيير الشركة (ينتهي عقدها في نهاية العام)، مقابل إجراء مناقصة فعلية لتأمين الفيول أو توقيع عقد يكون فعلاً من دولة إلى دولة، مع دولة تنتج الفيول الذي يحتاج إليه لبنان، لا كما يحصل مع الجزائر، التي لا تنتج هذا النوع من الفيول. أولى الخطوات الفعلية لإنهاء هذه الحالة، تمثلت في كشف وزير الطاقة ريمون غجر عن نيته الإعلان قريباً عن عقود جديدة.
تجدر الإشارة إلى أن لبنان لم يتعاقد أصلاً مع الشركة الوطنية الجزائرية مباشرة، بل مع شركة «Sonatrach Petroleum BVI» وهي شركة مسجلة في الجزر العذراء البريطانية (واحدة من الجنّات الضريبية في العالم)، مملوكة من مجموعة سوناطراك القابضة. وهذه الشركة تعمل في تجارة المشتقات النفطية والغازية وفي النقل البحري. وهي بالتالي، جل ما تفعله هو شراء الفيول من مصادر متعددة ثم بيعه للبنان، عبر شركة ZR energie أو عبر شركة البساتنة.