إنتقال المودعين إلى مرحلة تحصيل ما أمكن من حقهم بأيديهم، أو التفكير فيه أقله، أتى بعد إحباط السلطات السياسية، النقدية والقضائية لمطالباتهم القانونية والمنطقية. فالعجب اليوم ليس من انتفاضتهم المتأخرة، إنما من سكوتهم طيلة الفترة الماضية. ذلك على الرغم من كل ما رافق هذا الملف من تمييع ومماطلة، كان الهدف منه «تذويب الودائع». ومع إدراك المودعين، ولو متأخرين للحقيقة المرة، أصروا على عدم إرجاع «سيف» حقهم إلى «غمد» الانصياع للوعود، فهل يلامون؟!
المصارف التي تماهت مع السياسات النقدية طوال السنوات الماضية، وأحبطت أكثر من خطة تعاف اقتصادية، تلعب دور الضحية. فعقب اقتحام سالي حافظ أحد المصارف قبل أسبوع ونصف الاسبوع من اليوم، لتحصيل وديعة شقيقتها المريضة بالسرطان، أصدرت «جمعية المصارف» بياناً شددت فيه على أن «البنوك تتعامل بإيجابية مع الحالات الانسانية الخاصة لبعض المودعين». وبالتالي لا حاجة للعنف للحصول على جزء من الوديعة طالما السبب مبرر. إدعاءات يمكن نقضها بالبراهين الخاصة والعامة. والهدف ليس دحض رواية البنوك، إنما لاظهار أن غضب المودعين ليس مبرمجاً ولا موجهاً أو مؤدلجاً، إنما وليد حاجة يتعامل معها جميع من في السلطة بخفة قل نظيرها.
لا إستجابة للحالات الإنسانية
فيرونيك مراد المودعة في «بنك بيروت»، الذي يرأس مجلس إدارته رئيس «جمعية المصارف»، لم توفر طريقة «مدنية» للحصول على جزء من وديعتها لابقاء أسرتها على قيد الحياة، بكل ما للكلمة من معنى. فهي مصابة بورم حميد يفترض اسئصاله، ووالدتها تعاني من سرطان نادر Multiple Myeloma يتطلب عدم تفاقمه علاجاً لفترة معينة بكلفة اسبوعية تصل إلى 30 مليون ليرة. أمّا شقيقتها، فتعاني من تأخر في النمو وتستلزم عناية خاصة. متطلبات أكثر من ضرورية تعجز عن الايفاء بها، رغم امتلاكها وديعة تناهز المليون دولار، كانت قد وضعتها والدتها في المصرف قبل سنوات، بعد بيع عقار متروك عن زوجها المتوفي. «حاولتُ التواصل مع مدير فرع المصرف وقدمت التقارير الطبية قبل فترة وجيزة دون أي جدوى»، تقول مراد. و»استحصلت على رقم صاحب المصرف وجربت الاتصال به مراراً وتكراراً لأشرح له وضعي فلم يرد على الاتصالات، ولم يستقبلوني في مكتبه بحجة أنه خارج البلد». وبعد تنفيذ سالي حافظ عملية الاقتحام «تواصل معي فرع المصرف لاعطائي 5875 دولاراً على اساس سعر صرف 8000 ليرة أي 47 مليون ليرة، في حين أن هذا الرقم نقداً يساوي 223 مليوناً بحسب سعر صرف السوق الموازية فرفضت»، تتابع مراد. فـ»انا لا اشحذ، إنما أطالب بحقي واريده كاملاً. هذا عدا عن ان المبلغ الذي يمننوني به لا يكفي علاجاً لوالدتي لمدة أسبوع واحد». مراد التي وصلت إلى طريق مسدود وفقدت الامل بامكانية استرجاع وديعتها، أو أقله الجزء الذي هي بأمس الحاجة إليه منها، لم تخفي تفكيرها بتنفيذ عملية اقتحام للمصرف على غرار ما جرى الاسبوع الماضي من قبل عشرات المواطنين.
إستعصاء عن تطبيق القوانين
المصارف التي لا تستجيب للحالات الانسانية كما تدعي في بياناتها، تتملص وتستنسب في تطبيق القوانين المقرة، ومنها الدولار الطالبي. فلا القانون رقم 193 الصادر في العام 2020 لمدة عام نفذ بشكل كامل، ولا القانون 283 الصادر لهذا العام والذي يجيز لاهالي الطلاب تحويل 10 آلاف دولار، يطبق بشكل صحيح. فـ»أكاد اجزم أن أحداً من المصارف لا يحول المبلغ كاملاً، وأغلبيتها تحوّل بين 2000 و3000 دولار، فيما قلة قليلة من الاهالي استطاعت تحويل مبلغ يصل إلى 5 آلاف دولار في الحد الاقصى»، يقول رئيس جمعية تكتل أهالي الطلاب اللبنانيين في الخارج فادي ملحم، و»كل الدعاوى التي ترفع في القضاء تبقى في الادراج».
التحويل «على ظهر» الطلاب
الأخطر من ذلك أن «بعض المودعين النافذين ممن ليس لديهم أبناء يدرسون في الخارج، يحولون أموالاً بالتواطؤ مع مصارف معينة «على ظهر» قانون الدولار الطالبي»، يقول ملحم. وهذا ما برهنه بشكل قاطع حديث حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي قال لنا في أحد الاجتماعات أنه «حول في العام 2021 مبلغ 280 مليون دولار للطلاب الذين يدرسون في الخارج بناء على القانون 193». في الوقت الذي تشير فيه احصاءاتنا إلى أن مجمل القيمة لا تتجاوز بشكل عام 50 مليون دولار، في حال حوّل كل ولي أمر 10 آلاف دولار. وهذا المبلغ لا يتخطى في الحقيقة 10 ملايين دولار، إذا احتسبنا عدد المستفيدين من القانون مع الكميات المحولة، لهم والتي تراوحت في معظمها بين 2000 و3000 دولار اميركي». ويتابع ملحم أنه «عندما طالبنا بقاعدة البيانات التي تظهر أسماء المستفيدين من التحاويل، وقيم هذه الحوالات كان جواب الحاكم: «هذه القائمة موجودة في المصارف وليس في مصرف لبنان». هذه الاموال التي تحول إلى الخارج من دون وجه حق، تدفع مما تبقى من توظيفات الزامية تعود لكل المودعين في مصرف لبنان، على أساس 10 آلاف دولار لكل طالب. ولكن عندما يدفع للطالب 5 آلاف دولار كحد أقصى، يصبح باستطاعة بعض المصارف استخدام المبلغ المتبقي من «الكوتا»، أي الحصة المخصصة من المركزي، لتمويل عمليات بعض الزبائن المحظيين. وهنا يبرز السؤال بشكل أساسي عن دور لجنة الرقابة على المصارف ومن خلفها مصرف لبنان في متابعة هذه التجاوزات وإيقافها.
أمام هذه الوقائع التي تشكل جزءاً بسيطاً من التجاوزات اليومية في القطاع المصرفي، والتي لا يدفع ثمنها سوى المودعين المحتاجين، يصبح تطبيق خطة تعاف جدية ومنطقية أمراً أكثر من ضروري. فمن دون هذه الخطة التي تعطي أولاً الامل بإمكانية استرجاع الحقوق، وتضمن ثانياً، حقاً ولو نذيراً، لكل المودعين بالحصول على أموالهم، فان أبواب المصارف ستبقى مقفلة حتى ولو فتحت مؤقتاً. فالمودعون لم يعد أمامهم شيئاً ليخسروه، ومن لم يكن يخطر بباله تحصيل حقه بالقوة أصبح اقتحام المصرف بالنسبة إليه كـ»شربة المي». في المقابل يظهر من الواضح أن تجاوزات بعض المصارف أصبحت كبيرة، وهي تمارس على المكشوف، من دون أدنى رقابة أو حتى محاسبة من الجهات المسؤولة. وعليه إن لم يتنازل الافرقاء السياسيون عن منافعهم في جنة الدولة، والمصارف عن بعض مصالح أصحابها الخاصة ويجري الاتفاق على قواعد توزيع عادلة للخسائر، فان كل الاحتمالات أصبحت واردة وليس أقلها خطورة إبقاء المصارف على أبوابها مغلقة… في وجه العامة.