يفاقم الترخيص الذي منحه مجلس الوزراء لشركة ستارلينك أخيراً، الجدل المستمر حول مدى جدية الدولة في معالجة المشاكل المتراكمة في قطاع الإنترنت. فقد حصلت ستارلينك على الترخيص في ظل فوضى تنظيمية موصوفة يعانيها القطاع. وبدلًا من أن تعمل الدولة أولًا على تصويب هذا الواقع، لجأت إلى حلول موازية أثارت شكوكًا، وخصوصًا لكونها جاءت محمّلة بمخاطر حرمان الدولة من حقوقها الحصرية في استجرار السعات الدولية للإنترنت، وتقويض التنافسية المطلوبة في القطاع.
قُدمت ستارلينك على أنها الحل السحري الذي سيعيد الثقة للاستثمار في لبنان، باعتبارها شبكة اتصالات متطورة، من شأنها القضاء على السوق غير الشرعية المتفشية منذ الأزمة المالية اللبنانية. استندت مصادر وزارة الاتصالات على هذه الجدلية، لتصور أي انتقاد للمشروع على أنه معاداة للاستثمار أو دفاع عن مصالح الشركات الخاصة التي أخلّت بالتزاماتها تجاه الدولة خلال السنوات الماضية، حتى لو كانت الدولة نفسها شريكة في هدر أموالها من هذه الشركات، نتيجة إسقاط أولوية تطبيق القوانين والمراسيم التي تتيح لها محاسبة دقيقة على كل السعات المتوفرة عبر أوجيرو، من منبعها وحتى مصبها.
إلا أن الهفوات التي لفّت الترخيص لستارلينك، أضعفت موقف الدولة في جدليتها. وبدلًا من أن تتحصن بمشروع ترخيص يصون حقوق الجميع ويفرض عليهم الالتزام بواجباتهم، تحوّلت مخالفات الترخيص لستارلينك سلاحًا لمحاربته. وقد رُفع هذا السلاح بوجه وزارة الاتصالات أولًا في اجتماعات لجنة الاتصالات النيابية، قبل أن تقرر شركات توزيع الإنترنت منازعة الدولة على حقوقها، سالكة مسار القضاء في مواجهتها.
طعون بحق الترخيص
في تاريخ 3 تشرين الثاني الجاري، وقبل انقضاء المهلة القانونية لإمكان تقديم أي طعن أمام مجلس شورى الدولة، تقدمت كل من الشركة اللبنانية للخدمات ش.م.م. Cable One، وشركة Terranet ، بمراجعة أمام مجلس شورى الدولة، طلبتا بموجبها بإبطال الترخيص الممنوح من قبل الحكومة اللبنانية لستاريلنك ووقف العمل به.
اللافت أنه في الوقت الذي التزمت فيه الشركات المعترضة المهلة القانونية لتقديم الطعن، أهملت الحكومة متابعة البند الأول من قرارها الذي أجاز الترخيص لستارلينك ضمن المهلة الزمنية التي حددتها لنفسها؛ إذ طلب مجلس الوزراء من وزارة الاتصالات أن ترفع له تقريرًا خلال مهلة شهرين أيضًا، حول نتائج المساعي والمفاوضات التي تجريها الوزارة مع شركات أخرى أبدت اهتماماً بالسوق اللبنانية؛ أي Eutelsat وArab Sat، بعد أن أصرّ مضمون القرار رقم 5 على أن الترخيص لستارلينك لا يمنحها الحصرية، وبالتالي لا يشكل حائلًا من دون منح غيرها التراخيص.
ولكن بعد وضع ترخيص ستارلينك في الجيب، لم يعد تأمين التنافسية عبر “الإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية” أولوية، على ما يبدو. لا بل أدرج الترخيص لستارلينك من ضمن الإنجازات التي تعددها مصادر وزارة الاتصالات، ولو بتهريبة سمحت بإقرار الترخيص على مشارف تعيين أعضاء الهيئة الناظمة التي يفترض أن تبت بمثل هذا الترخيص.
هذا الأداء الملتبس، جرى تفصيله على نحوٍ أوضح في الطعن المقدم من قبل Cable One وTerranet، الذي اعتبر أن الترخيص الذي منح لستارلينك “يشكل عقد امتياز مقنّع لمرفق عام استراتيجي، جرى تمريره في الحكومة من دون العودة الى مجلس النواب كما يفرض الدستور اللبناني.”
تجديد الترخيص سنوياً
وفقا للطعن يتأتى الضرر من خدمة ستارلينك في كونها مجموعة من الأقمار الصناعية ” توفر خدمة الاتصال القمري بالإنترنت، وهي مختلفة كليًا عن الشبكة الموجودة حاليًا، وقادرة أن تحل محلها. وعليه، فان ستارلينك ستستورد الانترنت من خارج الأطر القانونية التي تحصر استيراد السعات الدولية بالدولة عبر هيئة أوجيرو، وهذا ما يجعلها تتمتع بمصادرها الخاصة من الانترنت عبر الأقمار الصناعية.
كان يفترض نتيجة تخطي رخصة ستارلينك لاحتكارية أوجيرو القانونية في تأمين السعات الدولية، أن يشرّع الترخيص لستارلينك بموجب قانون يصدر عن مجلس النواب، من دون ان يلغي ذلك دور الهيئة الناظمة لقطاع الاتصالات، التي يحق لها أن تمنح التراخيص بموجب مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء، وفقًا للمادة 19 من قانون انشائها، وليس بقرار وزير الاتصالات منفردًا.
ولكن تبين أن وزير الاتصالات لم يتح لنفسه فقط هذا الامتياز عبر منح شركة خاصة حق استجرار السعات عبر الأقمار الاصطناعية بقرار يصدر عن مجلس الوزراء؛ إنما لكل وزير يخلفه أيضًا، نتيجة لتضمين مرسوم الترخيص نصًا يتيح تجديد الترخيص سنوياً بعد سنتين، بموجب قرار يصدر عن وزير الاتصالات، وهو ما شكل إمعانًا في تهميش الهيئة الناظمة التي ينص القانون 431/2002 على صلاحيتها في ذلك.
لم تكتف الشركتان بما ذُكر؛ بل اعتبر طعنهما أنّ الترخيص يمثل تهديدًا مباشرًا لعائدات الدولة من الشركات المرخّصة، والتي تبلغ حاليًا نحو 31% من أرباحها. ووفق الطعن، فإن Starlinkستحرم هذه الشركات من نحو 25% من زبائنها، وهو ما يعني تحويل عائداتها مباشرة إلى الخارج، إضافة إلى تأثير سلبي على توظيف الشباب والتسبب بالبطالة في صفوفهم.
مخالفات بالجملة
هذه الهواجس تعززها بالنسبة للشركات الطاعنة، الفجوة التي ظهرت بين قرار مجلس الوزراء في 11 أيلول 2025، الذي حصر استفادة Starlink بالشركات التجارية، والمرسوم التنفيذي في 7 تشرين الأول 2025، الذي وسّع نطاق الخدمة ليشمل الأفراد والمنازل. وهذا ما اعتُبر غيابًا للتنسيق بين القرار والسياسة التنفيذية، وأثار أسئلة حول مدى جدية الدولة في حماية المنافسة وتنظيم القطاع.
هذه المخالفات وغيرها رأى فيها طعن شركتي ال ISP أسبابًا كافية “لا لإبطال الترخيص فحسب؛ إنما لاعتباره غير موجود في الأساس”، مع مفارقة تسجل لمصلحة شركات الاتصالات، والتي على الرغم من كل المآخذ على أدائها أو أداء بعضها، الذي ولّد الفوضى العارمة في الأسواق غير الشرعية، تجد نفسها اليوم في موقع المطالب بحماية الحق في المنافسة وضمان تنظيم أفضل للقطاع في المستقبل، حتى لو أريد عبر عناصر طلبها المحق تحقيق مصلحة الشركات الخاصة المشكوك بأمرها.



