في “الكابيتال كونترول”… ثعالب تحرس حظيرة الدجاج!

بداية، الانحراف في المشروع الاخير للقانون المعنون «ضوابط استثنائية وموقتة على التحاويل المصرفية والسحوبات النقديّة» (الكابيتال كونترول)، يبدو من الاختلاف بين العنوان والهدف المبتغى من القانون كما اوردته المادة الاولى منه. وهو «وضع ضوابط (فقط) على عمليات التحاويل إلى العملات الأجنبية بشكل شفاف لمنع المزيد من هروب رؤوس الاموال وتدهور سعر الصرف وحماية للمودعين، من خلال الحفاظ بقدر الامكان على الاصول بالعملات الاجنبية في القطاع المصرفي».

في المضمون يتضمن مشروع القانون انحرافات دستورية عدة اهمها:

1) تعارض قيوده مع الفقرة (و) من مقدمة الدستور التي تشير الى ان النظام الاقتصادي في لبنان حر يكفل الملكية الخاصة، وان الاخيرة لا يجوز نزعها (وبالتالي وضمناً تجميدها ) الا لاسباب المنفعة العامة المنصوص عليها قانوناً وبعد التعويض العادل (المادة 15من الدستور ).

2) اطاحته بمبدأ المساواة بين المودعين في الحقوق والواجبات المصرفية.

3) حرمانه المودعين والمتعاملين المتضررين من ارتكابات المصارف حق مراجعة القضاء.

4) تفويضه «اللجنة التي انشأها صلاحية البت بكثير من الاستثناءات المتحللة من الضوابط ما يحفز الانحراف والاستنساب في قراراتها واعمالها. امر يذكر بقول للمفكر الفرنسي Voltaire منقوش على جدار احدى صالات المحكمة الدستورية الالمانية في Karlsruhe ويرد في الكثير من احكامها هو التالي: «ان النص القانوني يجب ان يكون واضحاً متناسقاً ومحدداً، ووجود حاجة لتفسيره هو مؤشر لفساده».

بالعودة الى الهدف المحدد لمشروع القانون حسب المادة الاولى منه والتي هي «وضع الضوابط على عمليات التحاويل إلى العملات الأجنبية»، يشار الى قول للبروفسور Jörg Guido Hülsmann من المدرسة الاقتصادية النمسوية ذكر فيه «ان الهروب الى عملة اجنبية هو انعكاس لفقدان الثقة بالسياسيين وبمؤسسات الدولة واقتصادها». ان ازمة فقدان الثقة المشكو منها تتطلب ابتداء حلاً سياسياً ولا يكفي اطلاقاً ان يكون كما هو معروض تقنياً وعلى اهميته. من المفيد التذكير بان بداية اطلاق حركتي التحويل الى العملة الاجنبية وتحويل رؤوس الاموال الى الخارج اللتين اشعلتا الازمة الراهنة اتت من قبل PEPs اي الاشخاص المكشوفين سياسيا، وInsiders اي الاشخاص المطلعين من الداخل قبل الآخرين على المعلومات الخاصة بالوضع النقدي والمالي، وايضا من اصحاب الحظوة ومدراء المصارف وكبار المساهمين فيها وغيرهم…

يشرع مشروع القانون المنطقة المصرفية الحرة التي سبق لحاكم مصرف لبنان ان انشأها بمقتضى القرار13217 موضوع التعميم رقم 150 تاريخ 9 نيسان 2020. فقد اعفى الحاكم المصارف من اجراء التوظيف الالزامي لدى مصرف لبنان مقابل الاموال المحولة من الخارج والاموال التي تتلقاها نقداً بالعملات الاجنبية بعد تاريخ 9 نيسان 2020.

واشترط بالمقابل ان تضمن هذه المصارف لاصحاب الاموال المحولة حرية استعمالها للاستفادة من الخدمات المصرفية كافة المقدمة منها بالعملات الاجنبية، بما في ذلك التحاويل للخارج والسحوبات النقدية وخدمات البطاقات المصرفية في لبنان والخارج. تحت طائلة تعرض المصرف المخالف للعقوبات التي ستفرضها عليه الهيئة المصرفية العليا عملاً بالمادة 208 من قانون النقد والتسليف ولعقوبات اخرى.

ذات التوجه اعتمده مصرف لبنان لاحقا في قرار صدر بالتعميم رقم 154 تاريخ 27 -8 -2020 طالب فيه المصارف باعتماد اطار قانوني مناسب يرعى العلاقة بينها وعملائها من الـ PEPs والـ Insiders ومدراء المصارف وكبار المساهمين فيها وغيرهم الذين استجابوا لطلبات «الحث» التي وجهت اليهم لاعادة جزء مما حولوه للخارج ابتداء من 1 تموز 2017 على ان يتضمن الاطار المطلوب ما يمتن ثقة الاخيرين باستعادة ودائعهم مهما كانت الظروف عند حلول الاجل المتفق عليه.

قرارا حاكم مصرف لبنان في التعميمين رقم 150 ورقم 154 قسما نشاط القطاع المصرفي الى قسمين: (الاول) تمارس فيه وتحت نظر حاكم مصرف لبنان ورئيسة لجنة الرقابة على المصارف وصولا الى اعلى المسؤولين في السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية شتى انواع التقييدات غير القانونية على معاملات المودعين. و(الثاني): يتمتع فيه المودعون بالتسهيلات والاغراءات المتنوعة لاجراء مختلف العمليات المصرفية فيه وبضمانات منها تهديد ووعيد من مصرف لبنان باي مس بحقوق هؤلاء المودعين.

ما فعله مشروع قانون الضوابط هو تكريس الواقع السابق المحكي عنه، لكن بشكل فج اذ رفع من منسوب التقييدات على الفريق الاول من المودعين وحرمهم حتى من ممارسة حقوقهم في مراجعة القضاء عند افتئات ادارات المصارف على حقوقهم القانونية.

جدير بالذكر فقط للفت الانتباه: (1) ان القرار موضوع التعميم رقم 150 يطالب كل مصرف في المنطقة المصرفية الحرة بايداع ما يوازي 100% من قيمة الوديعة بالعملة الاجنبية نقدا لديه، او لدى مراسليه في الخارج في حساب حر من اي التزامات، تدبير لو اتخذ عند بدء العمل بسياسة التثبيت النقدي في تسعينات القرن المنصرم لما كان لهذه الازمة ان تحصل. وهذا التدبير وغيره من الامور يطالب بها بالواقع اصلاحيون عدة للتحوط من الازمات المرتبطة بالعملات الاجنبية على رأسهم البروفسور Maurice Allais حامل جائزة Nobel للاقتصاد عن كتاباته في قضايا النقد والمصارف والمالية العامة.

(2) ان حيثيات التعميم 150 تشير الى ان صدوره هو «حفاظ على سلامة اوضاع النظام المصرفي والمصلحة العامة في الظروف الاستثنائية الراهنة التي تمر بها البلاد حاليا، وللمساهمة باعادة تفعيل عجلة الاقتصاد الوطني واستقراره. «بعد عدة ايام يكون قد مر على صدور التعميم المذكور عامان بالتمام، ولم يطرأ اي تحسن او تطور في تحقيق المبتغى منه الوارد في الحيثيات، والغريب ان يأتي مشروع قانون الضوابط الاستثنائية والموقتة لاعادة تثبيت توجهاته. تكرار على امل نتائج افضل!

يشرع ويستكمل المشروع بتضمنه نصا يحدد سقف سحوبات الفرد الشهرية بمبلغ ألف دولار، إما بالعملة الأجنبية أو بالعملة الوطنية أو بالعملتين معاً وفقا لما تحدده «اللجنة»، نهج «الليلرة» و»الهيركات» اللتين اسس لهما مصرف لبنان في التعميمين 151 و158.

لقد سبق توضيح التالي في دراسة مستفيضة نشرتها «نداء الوطن» في 21 آذار 2022:

(1) ان الزام مصرف لبنان اصحاب الحسابات المفتوحة بالعملات الاجنبية بـ «ليلرة» سحوباتهم اي بقبول الليرة في تسديد المصارف لسحوباتهم من هذه الحسابات هو امر غير قانوني.

(2) ان الزام مصرف لبنان اصحاب الحسابات المفتوحة بالعملات الاجنبية بقبول اقتطاعات مهمة من سحوباتهم «هيركات» نتيجة الزامهم بقبولها بالليرة وبسعر صرف اقل من المعدلات الواقعية، سيفضي الى تذويب ودائعهم وسرقتها. وهو امرغير مقبول ويخالف الدستور وقانوني التجارة والنقد والتسليف.

جدير بالذكر ان اول اشارة الى التوجه الى «ليلرة « السحوبات صدرت عن الحاكم في كانون الثاني 2020 في برنامج «صار الوقت» مع الاعلامي مارسال غانم. اذ ذكر ان المصرف بامكانه سداد الودائع التي تلقاها بالعملة الاجنبية بالليرة اللبنانية لكن دون الاشارة على اساس اي سعر صرف.

تكريس مبدأي «الليلرة» و»الهيركات» بالتعامل تماهى مع ظاهرة ترسيخ العمل بـ»اللولرة»، وبالتالي مع امكانية تحلل المصرف المركزي عمليا من موجب مسك الاحتياطي الالزامي العائد للعملات الاجنبية بهذه العملات، واستبدال الامر بحسابات «لولار» يتم من خلالها تذويب هذا الاحتياط بقدر الحاجة، طالما ان رده الى اصحابه الحقيقيين اي المودعين بات ممكنا بالليرة التي تنتجها مطبعته اي بـ»الليلرة» وفقا لما تقرره «اللجنة». وهذا ما يفسر اللغط الدائم الذي يتحدث عنه البعض عن الحجم الحقيقي لموجودات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية واستنكاف مفوضي مراقبة المصرف Ernest & Young و Deloitte & Touch عن اكمال مهامهم نتيجة عدم تمكنهم من تحديده.

يحدد مشروع القانون سقف السحوبات النقدية للمودع بـ 1000 دولار شهريا كحد اقصى اما بالدولار او بالليرة مع اعطاء اللجنة صلاحية تعديل هذا السقف لما هو ادنى. كما تحديد الشطور التي تدفع بكل عملة، ما يعني تحول المصارف عمليا الى صناديق اعاشة لقدامى المودعين تقدم لهم من اموالهم فتات العيش في بلد قال عنه الراحل Bernard Russel في ثلاثينات القرن الماضي، انه البلد المؤهل ليكون مواطنه الاثرى على ضفاف المتوسط.

ينص مشروع القانون على انشاء لجنة موازية لمصرف لبنان في امور النقد والمصارف، تقضم صلاحيات مهمة وواسعة من صلاحية المجلس المركزي للمصرف في تنظيم تقييد عمليات سحب الاموال على الاخص بالعملة الاجنبية وتحويلها وطريقة دفعها ونقلها الى الخارج وغيره… وتقوم، اي اللجنة، على قواعد مناقضة لتلك التي ارساها «الآباء» عند صياغتهم لقانون النقد والتسليف حيث اشاروا صراحة في اسبابه الموجبة الى ضرورة ابعاد قرارات النقد والمصارف عن تأثير رجال السياسة والمصرفيين. والذي حصل ان رئاسة اللجنة عهدت الى رئيس مجلس الوزراء صاحب مساهمات مصرفية مهمة ونيابة رئاستها الى نائب رئيس مجلس الوزراء.

يمنع مشروع القانون الملاحقة القضائية للمصارف والمؤسسات المالية والمنبثقة عنها بسبب اي ارتكابات سابقة او لاحقة محليا وخارجيا بحق المودعين المتعلقة بما نص عليه مشروع القانون، ما يدفع الى التفكير بان الامر هو فعلا خطوة متقدمة نحو ترسيخ حكم المصارف او ما يعرف بالـبنكوقراطية Bankocracy اوTrapezocracy، خصوصا ان الواقع يشير الى تشارك المصارف مع العديد من السياسيين بمصالح مالية ضخمة سبق لجريدة الـ The Washington Post ان تناولتها قبل سنوات. كما يتولى عدد من السياسيين مناصب رفيعة في المؤسسات المصرفية او يحوزوا على مساهمات مهمة فيها.المثال على ذلك في الوقت الراهن رئيس حكومة لبنان الحالي ونائب رئيس مجلس النواب، ودعم الثنائي ترشيح رئيس مجلس ادارة احد المصارف على لائحتهما المشتركة. والاخير كان قد اختير وزيراً في وقت من الاوقات فجمع المهمتين المصرفية والسياسية دون اعتراض من احد.

مصدرنداء الوطن - توفيق شمبور
المادة السابقةمؤسسات الدولة في دولة المؤسسات… هل تنجح الرقابة الرقمية في تعزيز دور التفتيش المركزي؟
المقالة القادمة“إقتصاد الكاش” يفاقم تعقيدات حل الأزمة